الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

الكلية الإكليريكية.. هل لازالت تؤدى دورها الذى بزغت لأجله؟

فى أجواء متصارعة ومتضاربة بين الإكليروس وعلى رأسهم "البابا كيرلس الخامس" وبين العلمانيين الذين جاهروا مراراً بالإصلاح لإنشاء مجلس مختص بأمور طائفتهم وهو المجلس الملى، الذى ما إن بزع للنور حتى احتدم معه الصدام من الإكليروس والبابا والذى وصل إلى ذروته بنفى البابا من كرسيه وعودته إليه مرة ثانية، كل تلك الصراعات فى الداخل لم يكن بإمكانها أن تسفر عن مناخ تعليمى وثقافى ليس فى أوساط الشعب القبطى فحسب، وإنما فى أواسط الكهنة والوعاظ والخدام ككل، فتفشى الجهل، وانتشرت التعاليم المغلوطة البعيدة كل البعد عن الإيمان والمحبة المسيحية، والذى ساعد أكثر على تفشى ذلك الجهل هو غرق المصريين جميعاً فى بوتقة الاحتلال والتمييز، فكانت مصر تجوز آنذاك صراعاً نفسياً عميقاً فى أعقاب نفى الخديوى وتولى ابنه توفيق الحكم وتدخل إنجلترا وفرنسا فى أمورها بادعائهما حق الإشراف على الميزانية المصرية، وتعينهما مندوباً ليكون مسئولاً عما أسمياه "صندوق الدين"، وكان المصريون والأقباط يتجاذبهم تياران متضادان: تيار الاستسلام للأمر الواقع وممالأة الحاكم، وتيار الاعتزاز بالقومية المصرية والعمل فى مثابرة على استرداد الحق. وبما أن الإنجليز اتخذوا من مبدأ "فرق تسد" أساساً لاستعمارهم فقد دأبوا منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر على الإيقاع بين الأقباط والمسلمين أولاً، ثم بين صفوف الأقباط، مستغلين ما آلت إليه أحوالهم من عدم تدريب الكهنة على الوعظ والإرشاد، إلى جانب الصراع بين البابا وأعضاء المجلس الملى الذى دام طوال مدة رئاسته.
ومن هنا امتد الإصلاح ليس فقط لإنشاء مجلس ملى معنى بإدارة الأمور المالية للطائفة القبطية، وإنما أيضاً بوجوب وجود مدرسة أكليريكية تعلم الكهنة والوعاظ والخدام كيفية التعمق فى فهم أمور الدين، هذا إلى جانب تعليمهم شتى العلوم المختلفة.
ولم تكن المدرسة الإكليريكية فكرة جديدة على الأذهان، فهى خلف لمدرسة الإسكندرية زعيمة العالم فى العلوم والمعارف، والتى كانت محط أنظار العالم بالأصل العتيد والمنبع الصافى. وما إن تلاشت مدرسة الإسكندرية وخبا ضوؤها اللامع ونورها الساطع حتى تفشى الجهل بين صفوف الأقباط، وهكذا بقى الشعب القبطى وبقيت الكنيسة القبطية فى اضمحلال وضعف مدة خمسة عشر قرناً من اضمحلال مدرسة الإسكندرية إلى قيام المدرسة الإكليريكية، ويصف المؤرخون هذا العصر بأنه عصر الظلام والركود والتأخر.
أنشئت الكلية الإكليريكية للمرة الأولى فى 13 يناير سنة 1875، وعهد إلى "الأيغومانوس فيلوثاؤس" بإدارتها، وكان طلابها من رهبان الأديرة فلم يقبل عليها إلا القليل ولم تستمر بضعة أشهر حتى اضمحلت، ولكنها بزغت للنور مرة أخرى فى التاسع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1893، واختير لها اثنا عشر طالباً واثنا عشر قساً، وأسندت رئاستها إلى "يوسف منقريوس أفندى" والذى كان مدرساً للغة الفرنسية والتاريخ المدنى بالمدرسة الكبرى.
وكانت السنة الأولى للمدرسة فى الفجالة سنة زاهية زاهرة امتلأ فيها الطلبة بالأمانى والآمال وهم يفاخرون رفاقهم بها ويمنون النفس بالحياة الخالدة مع الله فى خدمة الكنيسة. وفى السنة الثانية نقلت المدرسة إلى الدار البطريركية، ثم إلى دار فى سوق القبيلة، ثم أعيدت إلى الدار البطريركية، ثم اشترى لها منزل خاص سنة 1902 بمهمشة نقلت إليه المدرسة، ثم أعيدت ثالثة إلى الدار البطريركية، وأخيراً نقلت إلى مهمشة سنة 1912 وهناك تغير اسمها من المدرسة الإكليريكية إلى الكلية الإكليريكية حتى نقلها البابا شنودة الثالث إلى المقر البطريركى بالعباسية.
وعن خطة الدراسة ومناهجها فقد اتبعت المدرسة الإكليريكية خطة رشيدة لتخريج رجل دين مثقف، واسع الإطلاع، مطلع على كافة الفلسفات، ولأجل ذلك قسمت المواد على أساس مجموعات حيث كانت مواضيع كل مجموعة مترابطة مع بعضها البعض ارتباطاً وثيقاً، فالمجموعة الأولى كانت تدرس عقائد ولاهوت وعلم ودين، والثانية علم التفسير والوعظ، والثالثة تاريخ مقدس ودرس الكتاب، والرابعة تاريخ كنسى وسياسى، والخامسة الأحوال الشخصية وقوانين الكنيسة ومؤلفات الآباء، والسادسة طقوس وألحان ومزامير وتسبحة، والسابعة فلسفة ومنطق وعلم نفس، والثامنة علم التربية وتربية عملية، والتاسعة اللغات وكانت تشمل اللغة القبطية والعربية والإنجليزية والعبرية واليونانية.
ومن مدرسى المدرسة الإكليريكية الأوائل الإيغومانوس فيلوثاؤس، وحبيب جرجس الذى كان طالباً ومدرساً فى الكلية فى آن واحد، والقمص يوسف حبشى..وغيرهم
وعن الدعم المالى للمدرسة الإكليريكية قال حبيب جرجس:
"
فى سنة 1900 كانت تسكن جانب مسكنى سيدة متقدمة فى السن وهى "خريستا جرجس جوهرة" والتى ورثت عن والدها أطياناً بناحية أخميم، فسعيت لإقناعها بأن توقف للمدرسة الإكليريكية وللجمعية الخيرية القبطية شيئاً من أطيانها، فأوقفت ستة أفدنة للمدرسة الإكليريكية وثلاثة أفدنة للجمعية الخيرية، وذلك فى السنوات التى كانت فيها البطريركية فى عسر مالى شديد بسبب قلة الإيرادات وزيادة المصروفات، وقد نتج ذلك الخلل عن سوء تصرف العضو الذى كان منوطاً بمراقبة المدارس القبطية فكان يأمر بصرف مرتبات الأساتذة الأوروبين أولاً ثم إخواننا المسلمين ثانية وأما نحن الأقباط فلم يكن يصرف لنا إلا إذا توافرت الأموال!!" وجاهد مدرسو الكلية الإكليريكية وخريجوها وعلى رأسهم حبيب جرجس فى تنظيم الأمور المالية للمدرسة، وسن القوانين المنظمة للعمل، وشروط القبول للالتحاق بها، كما عمل خريجوها على مواصلة الاتصال بمدرستهم فأسسوا "جمعية خريجى المدرسة الإكليريكية" والتى كان من أهم أغراضها إنشاء صندوق للتعاون ومساعدة الأعضاء سواء أثناء المرض أو التوقف عن العمل، بل وإعطاؤهم قروضاً وتسيهل سبل التعليم لأبنائهم، ومساعدة أسر المنتقلين، وتأسيس ناد ومكتبة للأعضاء وتنظيم محاضرات لهم، ووصفت جريدة الوطنية الاحتفال بمرور 45 سنة على إنشاء المدرسة الإكليريكية فى العدد 637 التالى: "تميزت الحفلة عن مثيلاتها بحضور رجال الدين من طوائف السريان والإنجيليين والكاثوليك والأرثوذكس، وبوجود الكهنة الذين كانوا تلاميذ فى تلك المدرسة، جاءوا من جميع البلاد مجتمعين على صعيد واحد معاً".
كما انتشرت خدمة الوعظ والتعليم فى كثير من المحافظات المصرية بفضل جهود خريجى المدرسة الإكليريكية، ففى سنة 1928 تكونت بالمدرسة هيئة من الطلبة باسم "جمعية نشر كلمة الخلاص" وقاموا بتأسيس تسعة فروع بالقاهرة وضواحيها، كما كانت تلك الجمعية أساساً لبناء كنيستين بضاحيتى عين شمس والقناطر الخيرية وكنيسة بجهة ألماظة بمصر الجديدة، وفى سنة 1932 تكونت جمعية باسم "طلبة المدرسة"، وفى سنة 1937 تأسست جمعية "جنود الكنيسة القبطية" وكانت كل أهداف تلك الجمعيات هى الوعظ ونشر كلمة المسيح وتدريب الكهنة وتأهيلهم ثقافياً ودينياً.
كما ساهمت المدرسة الإكليريكية فى تعليم الدين في المدارس الأميرية حيث عين خريجوها وطلبتها مدرسي دين بالمدارس الأميرية فى جميع أنحاء القطر، كما انتدب "يوسف بك منقريوس" ناظر المدرسة مفتشاً للتعليم الدينى بمدارسها الأميرية إلى أن قررت الوزارة أن يتولى تعليم الدين بالمدارس أساتذة مسيحيون من أساتذتها الأصليين.
والمدرسة الإكليريكية أول من ابتكر الاحتفال بعيد جلوس البطريرك.
قال عنها "بطرس باشا غالى":
"
اهتموا بالمدرسة الإكليريكية قبل غيرها فإنه إذا أغلقت جميع مدارسكم القبطية فإنكم تجدون عنها عوضاً بالمدارس الأخرى، ولكن إذا لم تكن لكم المدرسة الإكليريكية فأين تعلمون رعاتكم؟"
هذه رحلة قصيرة بين جدارن المدرسة الإكليريكية التى شهدت مولد فكر الكثير من الآباء والكهنة والمصلحين والوعاظ، فهل أدت المدرسة الإكليريكية أهدافها؟ تحت هذا التساؤل أجاب حبيب جرجس: كل رغباتى فى هذه المدرسة لا أن تخرج كهنة ووعاظاً ومعلمين فقط، بل أريد أن تخرج مصلحين بكل ما فى هذه الكلمة من معنى...
وفى الختام لن أذكر سوى بعض الكلمات التى كتبت سنة 1938 بمناسبة مرور خمسة وأربعين عاماً على تأسيس الكلية الإكليريكية.. ولتكن هذه الكلمات ناطقة معبرة عن ما آل إليه التعليم والوعظ الآن، ولتكن أيضاً دعوة أطلقت من قرن مضى لا يزال صداها يتردد إلى الآن:
"
المدرسة الإكليريكية فى حاجة إلى أيدى الأمة القبطية متآزرة، متشادة، متواثقة على النهوض بها، والوصول بها إلى المثل الأعلى الذى يرجوه لها الشعب القبطى المجيد وما نهضته إلا من نهضتها، وما رقيه إلا من رقيها، وما مكانه إلا من مكانها، وهيهات أن يرقى شعب من دون أن يكون له عقيدة قوية، وأن يكون له من منبعها خير عون وأعظم مصلح".