الثلاثاء، 7 يونيو 2011

من عهد جمال عبد الناصر وتاريخ الوطنية.. إلى السلفيين والشعارات الطائفية

من عهد جمال عبد الناصر وتاريخ الوطنية.. إلى السلفيين والشعارات الطائفية

ربما يتشابه المشهدان من حيث التجمع البشرى المتكدس حول المبنى، والطوق الأمنى المحاصر له، والتغطية الإعلامية الضخمة، ومصر وهى تطل على أبنائها تارة مبتهجة وتارة باكية، فرغم الفارق الزمنى بين المشهدين والذى يزيد عن الأربعين عاماً من تاريخ مصر، أربعون عاماً ولا نعلم ماذا جرى لمصر، لا تندهش ولا تفكر كثيراً فهذا المبنى المحاصر بالجمع الغفير والسور الأمنى الحديدي إنما هو مبنى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية الذى يحتفل فى هذا الشهر بذكرى افتتاحه، وقد وجدت الفرصة سانحة لتصوير المشهد الأول فى سطور قليلة:

المكان: الجموع غفيرة داخل وخارج الكاتدرائية بالعباسية.

الزمان: 25 من يونيو عام 1968.

الخطاب:
"أننا نعتقد أن السبيل الوحيد لتأمين الوحدة الوطنية هو المساواة وتكافؤ الفرص، فبهذا نستطيع أن نخلق الوطن القوى. والمواطنون جميعاً لا فرق بين مواطن وآخر، فى المدارس أو الجامعة، ليس هناك تمييز بين مسلم ومسيحي، إنما يدخلون بحسب ترتيبهم فى الدرجات، ولو دخلوا كلهم مسلمين أو كلهم مسيحيين.. وفى التعيينات فى الحكومة بالدرجات والترقيات بالأقدمية دون تفرقة بين دين ودين لكيلا ندع فرصة للمتعصبين أن يتلاعبوا، ونحن كحكومة، وأنا كرئيس جمهورية مسئول عن كل واحد فى هذه البلد مهما كانت ديانته أو أصله أو نسبه، ومسئوليتنا هذه أمام ربنا يوم الحساب".
جمال عبد الناصر


بتلك الكلمات التى هزت وألهبت مشاعر ألوف من الحاضرين وأنزلت برداً وسلاماً على القلوب، رسم الرئيس جمال عبد الناصر دستور الوحدة، وكان غاندى قد سبق وحيا الوحدة التى تربط بين الشعب المصري، وكانت الطائفية وقتها تمزق الهند وتقف عقبة فى طريق تحررها.

الفرقة والانقسام كانتا السند الأول للاستعمار فى كل مكان يطؤه بأقدامه، وأدرك شعبنا آنذاك تلك الخطة، فوقف صفاً واحداً فى وجه تلك المحاولات. وقف جمال عبد الناصر بطل ثورة 1952 متصدياً لطيور الظلام الذين حاولوا القضاء على مكتسبات الثورة، ليسطر تاريخاً مجيداً فى كتاب مصر بحروف من قيم ومبادئ وحب تنص على المساواة واحترام معتقد وفكر الآخر، فقدم إسهاماً للحكومة المصرية بمبلغ مائة ألف جنيه لبناء الكاتدرائية المرقسية بالأنبا رويس.

تلك الثورة سطرت تاريخها بأبطال سرعان ما تولوا حكم البلاد ليحققوا إنجازات لم يكونوا يتخيلون أن يكون فى مقدورهم تحقيقها يوماً ما، ولم يكن يخطر ببالهم لحظة أن تمر السنين على ثورتهم لتنطلق ثورة أخرى تنادي بنفس القيم لمجابهة الفساد الذى تفشى فى كل القطاعات، ثورة "25 يناير" التى لم تسطر تاريخها بريئاً من الدماء وإنما حققت مطالبها بفضل دماء وثبات شبابها الذين آثروا الموت فى سبيل الوطن عن الحياة بترف فى وطن مكلوم من الفقر والفساد، خرجت الثورة للنور لتحقق نتائج أكبر من الثورة السابقة.



وعفواً قبل الاسترسال فى المقال سوف نصور المشهد الثانى، فربما يطرح فى ذهنك بعض التساؤلات، ويوضح ما يعجز القلم عن كتابته لشدة تألمه:

المكان: خارج الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.

الزمان: بعد ثورة 25 يناير بأربعة أشهر.

الخطاب: عايز أختى كاميليا، تحرير جميع الأسيرات المسلمات من داخل الكنائس، تفتيش الأديرة لإخراج الأسلحة.

الوصف: وجع فى قلب مصر التى ينشق أبناؤها، وهم لا يدرون أن قوتهم تكمن فى اتحادهم، وتعصبهم نتاج لجهلهم، وكرههم سيقضى على أمتهم.

وتحولت الكاتدرائية كمكان مصرى دينى ورمز للمحبة والتآخى، إلى ساحة للعراك والسباب، فبعد مظاهرات السلفيين بالطبع لم يكف الأقباط الذين رسخ فى وجدانهم شعور بالاضطهاد جراء سنوات الهجمات المتتالية عليهم فتجمهر آلاف الأقباط ليهتفوا: الأقباط أهم السلفيين فين؟ وبالروح بالدم نفديك يا صليب.

هذه الجدران ليست صماء وليست مبنية من طوب وطين، إنما هى روح وحياة، فهى جزء من قلب مصر الذى تكاتف يوماً من أجله المصريون مضحين بكل ما هو غال ونفيس من أجل هدف أسمى وهو تحقيق العدالة للمواطنين أجمع ورفع شأن البلاد، فمصر أعز لديهم من أن تهان ومن أن ينجرفوا إلى هتافات طائفية، ليست القضية هى كاميليا أو غيرها وإنما هى الروح الغريبة التى أمست تطل على البلاد، روح كراهية وصدام، روح عنف وإجبار، روح القوى لابد وأن يظهر الآن، روح بمنأى عن الوطنية والإخاء.


ماذا جرى لمصر لتنقلب من المشهد الأول إلى الثانى بتلك الصورة القاسية، أهو الجهل الذى ساد وتفشى طول العقود الماضية؟ أم الخطاب الدينى المتشدد الذى ينص على الكراهية والبغض وتغيب العقل والمنطق؟ أم هو الكبت السياسى والاجتماعى الذى لم يجد المرء منه منفذاً إلا عن طريق التطرف الدينى؟ أم هو الفساد الذى لازم البلاد طوال الثلاثين عاماً الماضية وما صاحبه من رشوة ومحسوبية؟ هو أى سبب غير الدين، فلا دين ولا إله ولا منطق ولا فكر يسمح بتلك المهازل الطائفية التى تمر بها البلاد.

إعداد: مريم مسعد صادق

اللينك

http://www.eltareeq.com/tareeq2010/pg_editorpage_id_r.aspx?ArID=4753&GrID=10

السبت، 22 يناير 2011

إلى أين تهميش الأقباط فى البرلمان

http://www.eltareeq.com/tareeq2010/pg_editorpage_id_r.aspx?ArID=4073&GrID=21

شهدت انتخابات مجلس الشعب التى أعلنت نتائجها الشهر الماضى جدلاً واسعاً بين الأحزاب المعارضة والحكومة، الأمر الذى أدى إلى عزوف أقوى التيارات السياسية فى مصر عن المشاركة فى العملية الانتخابية: حزب الوفد، التجمع، والإخوان المسلمون. بعدما نجحت الأخيرة نجاحاً ساحقاً فى الدورة البرلمانية السابقة وحصلت على 88 مقعداً. وفى ظل هذه التيارات المتناحرة التى تؤكد على نزاهة الانتخابات ويتزعمها الحزب الوطنى من جهة والذى حاز بدوره على أغلب مقاعد البرلمان الحالي، والتيار الثاني الذى ندد بتزوير الانتخابات وقام بتشكيل ما يسمى ببرلمان المعارضة الموازى، الذى للأسف لم يجد أى صدى لدى الحزب الوطنى حسبما صرح به الرئيس محمد حسنى مبارك فى افتتاح الدورة البرلمانية 2010 بـ"خليهم يتسلوا".
وما العلاقة بين العنوان وما سبق؟ وهل الأقباط هم فقط من يعانون من تهميش فى البرلمان؟
يقول الأستاذ كمال زاخر منسق عام جبهة العلمانيين الأقباط في هذا الصدد إن الأقباط ليسوا سلبيين، بل إن الدائرة تشمل وتعم لنقول إن المصريين أدى بهم الأمر إلى أن يكون أغلبهم سلبيين، وكما قال العظيم نجيب محفوظ فى رواية السكرية من الثلاثية على لسان أحد أبطاله: "... مشكلة الأقباط... هى مشكلة الشعب، إذا اضطهد اضطهدنا وإذا تحرر تحررنا".
في هذا السياق، نستعرض أهم ملامح الحضور القبطى فى الانتخابات العامة فى إطار التطور التاريخى منذ إنشاء مجلس شورى النواب (1866) حتى انتخابات 2010، حيث كان عدد الأقباط يتراوح بين اثنين وثلاثة أعضاء مع إنشاء مجلس شورى النواب، ومع بدء تشكيل أول مجلس نواب مصرى عام 1879 كان الأمر يقضى بوجوب انتخاب عضو قبطى عن كل مديرية، وعن تمثيل الأقباط بين دستور 1923 إلى قيام ثورة 1952 كتب كيرلس المنقبادى تحت عنوان "الدين لله والوطن للجميع":
"
يشهد تاريخ مصر تولى رئاسة الوزارة للسياسين المسلمين والمسيحيين دون تفرقة، فكان هناك نوبار باشا الأرمنى المسيحي الذي تولى رئاسة الوزارة أكثر من مرة، ووزارة بطرس باشا غالى سنة 1908 ووزارة يوسف وهبة باشا سنة 1919، وعندما صدر المرسوم السلطانى فى 19 مايو سنة 1921 بتشكيل الوفد الرسمى للمفاوضات مع الإنجليز برئاسة عدلى يكن باشا كان من أعضاء الوفد من الأقباط الوزير السابق يوسف سليمان باشا ومن المستشارين والموظفين توفيق دوس بك ويوسف نحاس بك وإلياس عوض بك وإبراهيم فهمى بك، ومن اليهود يوسف أصلان قطاوى باشا".
ومنذ عام 1942 إلى عام 1950 كان عدد تمثيل الأقباط يتأرجح ليسجل أعلى رقم عام 1942 (27 مقعداً) وأقل تمثيل عام 1931 (4 مقاعد)، وبعد قيام ثورة 1952 تغير الوضع إذ لم يعد من الممكن ترشيح أى قبطى فى الانتخابات نتيجة لغياب الأحزاب عن الساحة السياسية، ولذا ابتكر الرئيس جمال عبد الناصر أسلوباً جديداً لم يمارس من قبل حتى يضمن تواجد الأقباط فى المجلس النيابى، فقرر إدارياً غلق 10 دوائر اختيرت بدقة حيث التواجد القبطى فيها محسوس وملحوظ وقصر حق الترشح فيها على الأقباط فقط، وظل هذا المبدأ معمولاً به منذ عام 1964 إلى عام 1979، ونتج عن هذا النظام التعييني تولد شعور لدى قطاعات من الأقباط بأنهم بالفعل أقلية وأن عليهم أن يرضخوا ويقبلوا بهذا الأسلوب التعييني لتمثيلهم في البرلمان. وطبقاً لجدول تمثيل الأقباط الذى سجله الصحفى عادل منير فى كتابه "الأقباط والبرلمان أصوات من زجاج" فإن تمثيلهم عام 1957 كان صفر، وفى 1964 تسعة، ونفس الرقم فى 1969.
وبدأت الوتيرة الطائفية تتصاعد مع تولى الرئيس السادات رئاسة الجمهورية، والذى رغب فى كبح جماح التيارات الناصرية واليسارية فقام بإطلاق سراح عدد من الإخوان المسلمون الذين كان يتم اعتقالهم منذ صدور القرار بحل جماعة الإخوان عام 1948، ولم يقتصر الأمر على هذا الحد فحسب بل أعلن السادات صراحة دينية الدولة بأن أطلق المادة رقم 2 فى الدستور المصرى لتقول: "الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى من مصادر التشريع"، لتعدل بعد ذلك عام 1979 لتكون "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" رغم أن الدستور السابق دستور الجمهورية العربية المتحدة "الوحدة بين مصر وسوريا" لم يتضمن أية إشارة لهوية دينية للدولة وإنما أكد على مدنية الدولة.
ولكى يحقق السادات ما كان يصبو إليه من إقامة دولة دينية إسلامية أعد لجنة مشكلة من رجال الأزهر لسن قوانين الحدود المستمدة من الشريعة مثل حد الحرابة وحد الردة، فى القانون الأول يكون إقرار المجنى عليه وشهادة رجلين مسلمين بالغين عاقلين.. المادة الخامسة، وفى القانون الثانى تشترط المادة أن يكون الشاهد مسلماً وهنا لا يكون غير المسلم مؤهلاً، وبناء على هذه القوانين انعكس المناخ العام لتطبيق الشريعة الإسلامية، وازدادت حدة التفرقة مع عودة المهاجرين المصريين من بلاد الخليج بعد أن اصطبغوا بأفكار وهابية سلفية بثوا سمومها فى دور العلم والأماكن التى عادوا للعمل فيها بعد أن تقلدوا مناصب مرموقة، فحلت لغة الاختلاف محل الوئام الذى كان قد سبق عهد الثورة، فبدلاً من الاتحاد والتأخي بين صفوف الشعب المصرى للنهوض بمستقبل بلادهم، ساد التعصب والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد مع تمييز دين عن آخر، وازدادت أحداث الفتنة الطائفية، والتى كان من أشدها إصدار السادات قراراً بتحديد إقامة البابا شنودة الثالث. وعن الجانب البرلمانى فقد بلغ عدد تمثيل الأقباط المعينين فى البرلمان فى عهد السادات عام 1971 تسعة، وفى عام 1976 ثمانية، وعام 1979 أربعة عشر قبطياً... وانتهى عهد السادات باغتياله.
"
وحينما تعلن نتائج الانتخابات في هذه أو تلك، وليس بين الفائزين فيها عدد يذكر من الأقباط، فإن ذلك يشير إلى دلالات... ويؤدى إلى انطباعات تدل على مدى الاستهانة بالضمير الوطني والحس القومى.. مما لا يرضاه أحد لوطنه، ولا لبنى وطنه. وكذلك الحال حينما تصدر قرارت التعيينات والترقيات أو يعلن عن الخيارات لتبوء المناصب فى شتى المجالات.. فإن خلوها من أسماء معينة يدل على افتقارها إلى روح المساواة والمشاركة".
ولن يستطيع أحد أن يرجع ذلك الافتقار إلى أنه ليس بين الأقباط من تؤهله كفاءته لتبوء مكانة، فقد شهد الجميع على مدى الحقب بتلك الكفاءة التى بوأتهم أرفع المناصب حينما لم تكن قد تفشت بعد نزعات فرقة أو تعصب، فيجب أن يكون هناك عدد من الأقباط فى المجالس النيابية على أرضية سليمة وليس لمجرد الشكل أو الاسترضاء، والأرضية السليمة هنا هى أن يقوم انتخابهم أو اختيارهم على قواعد ثابتة وعن قناعة كاملة بجدارتهم، وأن يتخذ فى تأييدهم من الوسائل ما يتخذ إزاء اخوتهم في الوطن.. ولسنا نقول ذلك من أجل بضعة أشخاص يزداد بهم عدد الأعضاء الأقباط فى المجالس النيابية أو الهيئات والنقابات وإنما من أجل مستقبل هذا الوطن ووحدة أبنائه، من أجل ثبات كيانه ورسوخ بنيانه.. من أجل سد فجوات وثغرات تتسلل منها رياح التفرقة التى تعصف بأمته وأمانه وتحاول أن تمشى بالوقيعة بين جموعه وطوائفه ابتغاء مغانم شخصية عن طريق السيادة على مقدراته غير مبصرين للهوة التى تدفع البلاد للتردى فيها.. فحينما تزول بواعث التفرقة بين دور العبادة، وبعض هذه البواعث ماثل فى خط همايونى عفا عليه الزمن وفى شروط عشرة لم يعد هناك مبرر لبقائها، حينما تزول تلك البواعث فلن يكون هناك من يفكر فى النيل من إحدى تلك الدور ولن يكون هناك ما يدعو إلى إحاطتها بحراسات تستنفذ الوقت والجهد وتبدو فى صورة لا تتفق مع رسالة هذا الدور.. لأن الشعب هو الذى سيحيطها بما هى جديرة به من مهابة وتقديس مستمد من رعاية الدولة لها والتسوية بينها وبين غيرها"..
لم تكتب تلك الفقرة السابقة فى الوقت الحالى وإن كانت شاهدة على تمثيل الأقباط فى الدورة البرلمانية الأخيرة، فكاتبها هو مسعد صادق بجريدة وطنى عام 1989.
وما قبل كتابة تلك الفقرة وافتتاح الدورة البرلمانية الحالية ما يقرب من أربعين عاماً ولا يزال المشروع الموحد لدور العبادة حبيس الأدراج رغم تعدد المشاريع المقدمة، وإن تميز عهد الرئيس محمد حسنى مبارك بإشاعة السلام فى الداخل والخارج، وإنصاف الأقباط في بعض القضايا مثل جعل يوم عيد الميلاد إجازة رسمية وتمثيل أقباط فى كل دورة برلمانية، عام 1984 تسعة أقباط، وعام 1987 عشرة أقباط، عام 1990 سبعة أقباط، عام 1995 ستة أقباط، عام 2000 ستة أقباط ومثلهم فى انتخابات 2005، إلى أن حصد الأقباط المعينون من جانب الرئيس سبعة مقاعد فى الدورة البرلمانية الأخيرة، وكان من بينهم جمال أسعد الذى يلاقى هجوماً شديداً من جانب الأقباط على تعيينه، لما تتسم به تصريحاته من لهجة معادية للبابا على حد قول المعارضين لتعيينه.
وهنا تتجدد الدعوة مع مطلع كل دورة برلمانية، لا نريد أقليات لا فى المجتمع ولا فى تمثيلنا كأقباط، نحن مصريون بالأول ونريد من يمثلنا كمصريين مطالبين بحقوق وليست هبات أو منح، وليس الشعار الإسلام هو الحل، ولا المسيحية هى الحل، وإنما الديمقراطية هى الحل
..

الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

الكلية الإكليريكية.. هل لازالت تؤدى دورها الذى بزغت لأجله؟

فى أجواء متصارعة ومتضاربة بين الإكليروس وعلى رأسهم "البابا كيرلس الخامس" وبين العلمانيين الذين جاهروا مراراً بالإصلاح لإنشاء مجلس مختص بأمور طائفتهم وهو المجلس الملى، الذى ما إن بزع للنور حتى احتدم معه الصدام من الإكليروس والبابا والذى وصل إلى ذروته بنفى البابا من كرسيه وعودته إليه مرة ثانية، كل تلك الصراعات فى الداخل لم يكن بإمكانها أن تسفر عن مناخ تعليمى وثقافى ليس فى أوساط الشعب القبطى فحسب، وإنما فى أواسط الكهنة والوعاظ والخدام ككل، فتفشى الجهل، وانتشرت التعاليم المغلوطة البعيدة كل البعد عن الإيمان والمحبة المسيحية، والذى ساعد أكثر على تفشى ذلك الجهل هو غرق المصريين جميعاً فى بوتقة الاحتلال والتمييز، فكانت مصر تجوز آنذاك صراعاً نفسياً عميقاً فى أعقاب نفى الخديوى وتولى ابنه توفيق الحكم وتدخل إنجلترا وفرنسا فى أمورها بادعائهما حق الإشراف على الميزانية المصرية، وتعينهما مندوباً ليكون مسئولاً عما أسمياه "صندوق الدين"، وكان المصريون والأقباط يتجاذبهم تياران متضادان: تيار الاستسلام للأمر الواقع وممالأة الحاكم، وتيار الاعتزاز بالقومية المصرية والعمل فى مثابرة على استرداد الحق. وبما أن الإنجليز اتخذوا من مبدأ "فرق تسد" أساساً لاستعمارهم فقد دأبوا منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر على الإيقاع بين الأقباط والمسلمين أولاً، ثم بين صفوف الأقباط، مستغلين ما آلت إليه أحوالهم من عدم تدريب الكهنة على الوعظ والإرشاد، إلى جانب الصراع بين البابا وأعضاء المجلس الملى الذى دام طوال مدة رئاسته.
ومن هنا امتد الإصلاح ليس فقط لإنشاء مجلس ملى معنى بإدارة الأمور المالية للطائفة القبطية، وإنما أيضاً بوجوب وجود مدرسة أكليريكية تعلم الكهنة والوعاظ والخدام كيفية التعمق فى فهم أمور الدين، هذا إلى جانب تعليمهم شتى العلوم المختلفة.
ولم تكن المدرسة الإكليريكية فكرة جديدة على الأذهان، فهى خلف لمدرسة الإسكندرية زعيمة العالم فى العلوم والمعارف، والتى كانت محط أنظار العالم بالأصل العتيد والمنبع الصافى. وما إن تلاشت مدرسة الإسكندرية وخبا ضوؤها اللامع ونورها الساطع حتى تفشى الجهل بين صفوف الأقباط، وهكذا بقى الشعب القبطى وبقيت الكنيسة القبطية فى اضمحلال وضعف مدة خمسة عشر قرناً من اضمحلال مدرسة الإسكندرية إلى قيام المدرسة الإكليريكية، ويصف المؤرخون هذا العصر بأنه عصر الظلام والركود والتأخر.
أنشئت الكلية الإكليريكية للمرة الأولى فى 13 يناير سنة 1875، وعهد إلى "الأيغومانوس فيلوثاؤس" بإدارتها، وكان طلابها من رهبان الأديرة فلم يقبل عليها إلا القليل ولم تستمر بضعة أشهر حتى اضمحلت، ولكنها بزغت للنور مرة أخرى فى التاسع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1893، واختير لها اثنا عشر طالباً واثنا عشر قساً، وأسندت رئاستها إلى "يوسف منقريوس أفندى" والذى كان مدرساً للغة الفرنسية والتاريخ المدنى بالمدرسة الكبرى.
وكانت السنة الأولى للمدرسة فى الفجالة سنة زاهية زاهرة امتلأ فيها الطلبة بالأمانى والآمال وهم يفاخرون رفاقهم بها ويمنون النفس بالحياة الخالدة مع الله فى خدمة الكنيسة. وفى السنة الثانية نقلت المدرسة إلى الدار البطريركية، ثم إلى دار فى سوق القبيلة، ثم أعيدت إلى الدار البطريركية، ثم اشترى لها منزل خاص سنة 1902 بمهمشة نقلت إليه المدرسة، ثم أعيدت ثالثة إلى الدار البطريركية، وأخيراً نقلت إلى مهمشة سنة 1912 وهناك تغير اسمها من المدرسة الإكليريكية إلى الكلية الإكليريكية حتى نقلها البابا شنودة الثالث إلى المقر البطريركى بالعباسية.
وعن خطة الدراسة ومناهجها فقد اتبعت المدرسة الإكليريكية خطة رشيدة لتخريج رجل دين مثقف، واسع الإطلاع، مطلع على كافة الفلسفات، ولأجل ذلك قسمت المواد على أساس مجموعات حيث كانت مواضيع كل مجموعة مترابطة مع بعضها البعض ارتباطاً وثيقاً، فالمجموعة الأولى كانت تدرس عقائد ولاهوت وعلم ودين، والثانية علم التفسير والوعظ، والثالثة تاريخ مقدس ودرس الكتاب، والرابعة تاريخ كنسى وسياسى، والخامسة الأحوال الشخصية وقوانين الكنيسة ومؤلفات الآباء، والسادسة طقوس وألحان ومزامير وتسبحة، والسابعة فلسفة ومنطق وعلم نفس، والثامنة علم التربية وتربية عملية، والتاسعة اللغات وكانت تشمل اللغة القبطية والعربية والإنجليزية والعبرية واليونانية.
ومن مدرسى المدرسة الإكليريكية الأوائل الإيغومانوس فيلوثاؤس، وحبيب جرجس الذى كان طالباً ومدرساً فى الكلية فى آن واحد، والقمص يوسف حبشى..وغيرهم
وعن الدعم المالى للمدرسة الإكليريكية قال حبيب جرجس:
"
فى سنة 1900 كانت تسكن جانب مسكنى سيدة متقدمة فى السن وهى "خريستا جرجس جوهرة" والتى ورثت عن والدها أطياناً بناحية أخميم، فسعيت لإقناعها بأن توقف للمدرسة الإكليريكية وللجمعية الخيرية القبطية شيئاً من أطيانها، فأوقفت ستة أفدنة للمدرسة الإكليريكية وثلاثة أفدنة للجمعية الخيرية، وذلك فى السنوات التى كانت فيها البطريركية فى عسر مالى شديد بسبب قلة الإيرادات وزيادة المصروفات، وقد نتج ذلك الخلل عن سوء تصرف العضو الذى كان منوطاً بمراقبة المدارس القبطية فكان يأمر بصرف مرتبات الأساتذة الأوروبين أولاً ثم إخواننا المسلمين ثانية وأما نحن الأقباط فلم يكن يصرف لنا إلا إذا توافرت الأموال!!" وجاهد مدرسو الكلية الإكليريكية وخريجوها وعلى رأسهم حبيب جرجس فى تنظيم الأمور المالية للمدرسة، وسن القوانين المنظمة للعمل، وشروط القبول للالتحاق بها، كما عمل خريجوها على مواصلة الاتصال بمدرستهم فأسسوا "جمعية خريجى المدرسة الإكليريكية" والتى كان من أهم أغراضها إنشاء صندوق للتعاون ومساعدة الأعضاء سواء أثناء المرض أو التوقف عن العمل، بل وإعطاؤهم قروضاً وتسيهل سبل التعليم لأبنائهم، ومساعدة أسر المنتقلين، وتأسيس ناد ومكتبة للأعضاء وتنظيم محاضرات لهم، ووصفت جريدة الوطنية الاحتفال بمرور 45 سنة على إنشاء المدرسة الإكليريكية فى العدد 637 التالى: "تميزت الحفلة عن مثيلاتها بحضور رجال الدين من طوائف السريان والإنجيليين والكاثوليك والأرثوذكس، وبوجود الكهنة الذين كانوا تلاميذ فى تلك المدرسة، جاءوا من جميع البلاد مجتمعين على صعيد واحد معاً".
كما انتشرت خدمة الوعظ والتعليم فى كثير من المحافظات المصرية بفضل جهود خريجى المدرسة الإكليريكية، ففى سنة 1928 تكونت بالمدرسة هيئة من الطلبة باسم "جمعية نشر كلمة الخلاص" وقاموا بتأسيس تسعة فروع بالقاهرة وضواحيها، كما كانت تلك الجمعية أساساً لبناء كنيستين بضاحيتى عين شمس والقناطر الخيرية وكنيسة بجهة ألماظة بمصر الجديدة، وفى سنة 1932 تكونت جمعية باسم "طلبة المدرسة"، وفى سنة 1937 تأسست جمعية "جنود الكنيسة القبطية" وكانت كل أهداف تلك الجمعيات هى الوعظ ونشر كلمة المسيح وتدريب الكهنة وتأهيلهم ثقافياً ودينياً.
كما ساهمت المدرسة الإكليريكية فى تعليم الدين في المدارس الأميرية حيث عين خريجوها وطلبتها مدرسي دين بالمدارس الأميرية فى جميع أنحاء القطر، كما انتدب "يوسف بك منقريوس" ناظر المدرسة مفتشاً للتعليم الدينى بمدارسها الأميرية إلى أن قررت الوزارة أن يتولى تعليم الدين بالمدارس أساتذة مسيحيون من أساتذتها الأصليين.
والمدرسة الإكليريكية أول من ابتكر الاحتفال بعيد جلوس البطريرك.
قال عنها "بطرس باشا غالى":
"
اهتموا بالمدرسة الإكليريكية قبل غيرها فإنه إذا أغلقت جميع مدارسكم القبطية فإنكم تجدون عنها عوضاً بالمدارس الأخرى، ولكن إذا لم تكن لكم المدرسة الإكليريكية فأين تعلمون رعاتكم؟"
هذه رحلة قصيرة بين جدارن المدرسة الإكليريكية التى شهدت مولد فكر الكثير من الآباء والكهنة والمصلحين والوعاظ، فهل أدت المدرسة الإكليريكية أهدافها؟ تحت هذا التساؤل أجاب حبيب جرجس: كل رغباتى فى هذه المدرسة لا أن تخرج كهنة ووعاظاً ومعلمين فقط، بل أريد أن تخرج مصلحين بكل ما فى هذه الكلمة من معنى...
وفى الختام لن أذكر سوى بعض الكلمات التى كتبت سنة 1938 بمناسبة مرور خمسة وأربعين عاماً على تأسيس الكلية الإكليريكية.. ولتكن هذه الكلمات ناطقة معبرة عن ما آل إليه التعليم والوعظ الآن، ولتكن أيضاً دعوة أطلقت من قرن مضى لا يزال صداها يتردد إلى الآن:
"
المدرسة الإكليريكية فى حاجة إلى أيدى الأمة القبطية متآزرة، متشادة، متواثقة على النهوض بها، والوصول بها إلى المثل الأعلى الذى يرجوه لها الشعب القبطى المجيد وما نهضته إلا من نهضتها، وما رقيه إلا من رقيها، وما مكانه إلا من مكانها، وهيهات أن يرقى شعب من دون أن يكون له عقيدة قوية، وأن يكون له من منبعها خير عون وأعظم مصلح".

الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

انتخابات مجلس الشعب 2010

لم يكن يدرى "مارك زوكربيرج" الطالب فى جامعة "هارفاد" أن إنشاءه موقع الفيس بوك كساحة للتواصل مع زملائه فى ذات الجامعة، سوف يصبح فى يوم ما ساحة عالمية لقطاع كبير من الشباب يعبرون به عما فى صدورهم، وما لا يقدرون على البوح به جهراً أو علانية، ربما لعدم وجود منفذ سياسى لهم يعبرون من خلاله عن آمالهم وطموحاتهم ومشاكلهم، أو ربما لغياب الثقافة السياسية التى بإمكانها أن ترسم لهم الطريق الصحيح للتعبير عن آمالهم من خلال قنوات شرعية تحفظهم بمنأى عن أية أفكار متطرفة.
ومهما اختلفت الأسباب، أو الدوافع، إلا أننا أمام ظاهرة واضحة وهى أن الفيس بوك أصبح من المواقع الهامة فى التوصل إلى توجهات قطاع كبير من الشباب والشابات ليس فى القاهرة فحسب بل فى سائر المحافظات الأخرى، ومن هنا كان لابد لنا من أن نلقى الضوء على أفكار هؤلاء الشباب فى انتخابات مجلس الشعب 2010.
الشباب هم مستقبل أى أمة، فما بين إخوانى ووطنى وحزبى، أسس ما يقرب من سبعون جروب على أكثر شبكات التواصل الاجتماعى "الفيس بوك"، والمثير للدهشة فى هذا الأمر أن عشرة فقط من تلك الجروبات هى التى تحمل علم مصر، بينما الآخرون يحملون خلف صورهم إما آيات قرآنية أو شعارات إسلامية أو لوجو الحزب الوطنى الديمقراطى أو الأحزاب التى ينتمون إليها.
وفى سابقة جديدة من نوعها أيضاً اشترك معظم مرشحى المحافظات فى الدعاية من خلال الفيس بوك، فاتسعت الدعاية حتى شملت محافظات ودوائر عدة بينها الدقهلية وكفر الدوار وميت غمر والجمالية وامبابة... وغيرها
ومن جانب الإخوان المسلمون فقد قاموا بتأسيس جروب يحمل اسم "أؤيد جماعة الإخوان فى الانتخابات. الإسلام هو الحل" وجاء فى تعريفهم الشخصى أنهم أنشأوا الجروب لدعم مرشحى الإخوان فى الانتخابات المصرية، هذا وقد بلغ عددهم حتى نهاية شهر سبتمبر نحو الأربعة آلاف عضو، وهم فى تزايد مستمر..
وعلى الجانب الآخر احتد الصراع بين فريقين متنافرين أحدهما يدعو للمشاركة فى الانتخابات وحث الشباب على النهوض بمستقبل أمتهم، بينما الآخر يدعو إلى وقف مجلس الشعب نفسه! ولم يقدم لنا هذا الجروب الحلول البديلة فى الحياة الدستورية عندما يحل مجلس الشعب، وإنما اكتفى بالتعبير عن هدفهم من حل المجلس فقالوا:
لما كان أي نظام حكم ديمقراطي قوامه الرئيسي هو صوت الشعب وحقه في اختيار نوابه، ولما كان نائب البرلمان هو من ينوب عن الشعب في تشريع القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية... ولانقسام قوى المعارضة بين مؤيد ومعارض للمشاركة في الانتخابات البرلمانية دون رفض إجرائها ذاته، لذا كان لزاماً علينا أن ندعوا دعوة صادقة لحشد القوى الجماهيرية والوطنية والإعلامية والقانونية لإيقاف تلك الانتخابات الزائفة التي تسلب الشعب إرادته وحريته، والحيلولة دون إجراء تلك الانتخابات إلا بتحقيق مطالب الشعب السبعة المتوافق عليها كحد أدنى وهي:
1. إنهاء حالة الطوارئ.
2. تمكين القضاء المصري من الإشراف الكامل على العملية الانتخابية برمتها.
3. الرقابة على الانتخابات من قبل منظمات المجتمع المدني المحلى والدولي.
4. توفير فرص متكافئة في وسائل الإعلام لجميع المرشحين وخاصة في الانتخابات الرئاسية.
5. تمكين المصريين في الخارج من ممارسة حقهم في التصويت بالسفارات والقنصليات المصرية.
6. كفالة حق الترشح في الانتخابات الرئاسية دون قيود تعسفية، وقصر حق الترشح للرئاسة على فترتين.
7. تعديل المواد 76 و77 و88 من الدستور في أقرب وقت ممكن.
أما مركز ابن خلدون فقد قام بتأسيس جروب يهدف إلى تحالف الشعب لمراقبة الانتخابات، حيث نظم المركز دورات تدريبية للشباب لمراقبة الانتخابات، هذا وتتجه معظم منظمات المجتمع المدنى فى هذا الإطار لتدريب الشباب على كيفية المراقبة وعقد دورات تدريبية لهم، هذا إلى جانب برنامج إعداد القيادات النسائية للانتخابات البرلمانية 2010 بالتعاون مع المعهد الدنماركى المصرى للحوار.
وأمام تلك التيارات المتناحرة بين الشباب يجدر بنا السؤال: هل إذا أخفقت هذه الانتخابات في إيجاد مؤسسات مدنية ينفس من خلالها الشباب عن طموحاتهم وآمالهم، هل بإمكان الانتخابات القادمة أو على الأقل الانتخابات الرئاسية إيجاد مثل تلك المؤسسات التى تحفظ الشباب من أى آراء متطرفة ضد مصلحة الوطن أو الدين. متى سيتحقق هذا الأمر؟

السبت، 25 سبتمبر 2010

مذكرات سجين من عهد الثورة مسعد صادق... وحينما احتوتنى الجدران السميكة

هذه المذكرات من صميم الحياة، إنها صور للأشخاص الذين التقيتهم، والأحداث التى واجهتها، وعاصرتها، بعضها مشرق وضاء، والبعض الآخر لابد من أن يلقى عليه الضياء، وهى صور مجردة من الرتوش، بلا تزويق ولا تنميق، فإذا بدا جانب منها معتماً، فليست جميع الجوانب كذلك..

هكذا استهل الصحفى "مسعد صادق" كتابه "حينما احتوتنى الجدران السميكة" والذى روى فيه تجربة اعتقاله على مدار شهرين بالسجن الحربى وسجن الأجانب، والمواجهات والمصادمات التى شُنت عليه لتعويقه عن أداء رسالته التى كرسها للدفاع عن المظلومين والمضطهدين ومن ليس لهم من يدافع عنهم، وعلى ضوء ذلك أصدر جريدته "الفداء" سنة 1952 لتكون نافذة للمضطهدين تنطق بالآمهم وتكون هى لسان حالهم، مُتصدية لدعاوى الرجعية ومُنددة بالتطرف الذى يتستر وراء شعارات مفرقة، ومُكافحة للتخلف الذى يحاول أن يعود بالمجتمع إلى جاهلية الماضى البعيد صدرت الفداء، وأحدث صدورها دوياً هائلاً، فقد كانت تحمل كلمات بأقلام عدد من الشخصيات وأصحاب الرأى أمثال إبراهيم عبد الهادى رئيس الوزراء السابق، ومكرم عبيد، ونجيب الهلالى وكامل مرسى، والدكتور المنياوى وحبيب المصرى، ومحمود سليمان غنام، وسيد مصطفى، ورياض الجمل، وميريت غالى..وغيرهم.

وخاضت الفداء معارك أكثر جرأة فى تاريخ الصحافة فكتبت سلسلة مقالات بعنوان "حينما كانت التفرقة سياسة عليا" وبعض ما جاء بها: "كانت التفرقة فى عهد الملك سياسة عليا، وكانت الكنائس فى مقدمة ما استهدف لهذه السياسة المفرقة، فإن تصريحات بنائها كانت تجتاز العقبات التى تبنيها فى طريقها وزارة الداخلية، حتى إذا انتهت عند القصر الملكى... ألقيت على الرف"
جهرت الفداء بهذا فى الوقت الذى صمتت فيه بقية الصحف، لتكون لسان حال المواطن البسيط الحالم بدار عبادة. وحينما حل موعد صدور العدد الثالث من الفداء قامت ثورة الجيش وتقرر فرض الرقابة على الصحف، وانتدبت الثورة أحد الضباط للقيام بمهمة المراجعة وكان "البكباشى سامى يسى"، إلا أن الفداء لم تستسلم للرقابة بل صرخت منادية بأنه: "ينبغى إلغاء شروط التصريح وترك الناس يعبدون ربهم كيفما يشاءون".

كما خاضت الفداء معركة فصل الدين عن الدولة، منتهزة فرصة الإعداد لدستور جديد فى ظل الحكام الجدد، فتصدر العنوان الرئيسى لعدد 29 ديسمبر سنة 1952 "المطالبة بدستور قومى يصون الوحدة الوطنية" - "حذار من النص فى الدستور على دين الدولة.. الدولة الحرة كل الأديان لديها سواء".
ولأجل الرسالة التى بزغت من أجلها الفداء ذهبت هى ذاتها "فداء" وكانت ضريبة فادحة دفعها مسعد صادق من حريته الشخصية، لكنه كان يعدها تدشيناً لرسالة الفداء وبعثاً لها، لتبزغ من جديد تحت اسم الفداء الجديد، بعد أن لاقى مسعد صادق الكثير من العقبات والصعوبات التي دفعت به إلى السجن الحربى وسجن الأجانب مدة شهرين.

ويقول مسعد صادق فى كتابه: "منذ صدور العدد الأول من الفداء وأنا أواجه سلسلة من العناء... ولكن رؤيتى لها منشورة تتداولها الأيدى، ويتحدث عنها الناس، كانت تخفف من عنائى... لقد ألقيت على كاهلى معظم العبء فى التحرير والإصدار، وكان هذا يستنفذ الكثير من الوقت والجهد، ولم تكن لى حيلة لتجنب العبء، فليس فى وسعى أن أستخدم عديداً من الأيدى والأقلام، لأنه يتطلب نفقات باهظة لا قدرة لى عليها، ولم يكن ثقل العبء وحده هو مصدر المتاعب، وإنما كانت هناك متاعب أخرى من جراء ما يتوجسه المسؤلون فى الأجهزة الإدارية ورقابة النشر من الصحيفة، وقد عرفوا عنى فيما كتبت قبلاً من مقالات يومية أننى لا أخشى فى قول الحق شيئاً، وأننى لا أتردد فى أن أجاهر بما يحجم كثيرون فى تناوله أو الإشارة إليه من موضوعات أو مشكلات أو شكاوى، وعرفوا عنى أننى لست ممن يباع أو يشترى فى وقت كان يحفل فيه الميدان بعارضى الأقلام فى سوق البيع والشراء.. ولم أكن يوماً عميلاً لأية جهة أو سلطة فى الوقت الذى كثر فيه العملاء والوسطاء... عرف المسؤولون هذا عنى، وعرفوا أن شيئاً لا يمكن أن يستميلنى أو يرهبنى... ومن هنا كانت خشيتهم من صحيفتى.
لقد جاء اعتقالى فى أعقاب عيد الميلاد، فى يوم 15 يناير على وجه التحديد ولم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى هذا الحد، لأننى كنت حريصاً على التزام الجدية فى أداء رسالتى الصحفية، ولكننى لا أدرى كيف ساورنى فى ذلك الحين إحساس بأن أمراً سيقع، وسجلت هذا الإحساس فى الفداء فكتبت بالحرف الواحد: لا أدرى ماذا الذى أعاد إلى خاطرى فى مطلع عيد الميلاد، ذكريات ميلاد العام الماضى، فرأيتنى فى شغل عن العيد بحشد من الذكرى وفيض من الأشجان، لا أدرى مبعث هذه الذكرى وهذه الأشجان... ولكن الذى أدريه هو أن قلبى لم يطاوعنى إلى أن أنصرف إلى مباهج العيد كما كان الحال العام الماضى، لأننى لم أجد مكاناً لهذه المباهج... ما بال أحاسيس قلبى فى هذا العام مفعمة بالذكرى والشجن"، وقد صدق إحاسسه فقد اتصل به تليفونياً مسئول من وزارة الإرشاد القومى يدعوه للحضور ومعه الدكتور لويس دوس الذى كان يكتب بالصحيفة إلى الحضور إلى دار الوزارة ظهراً، وهناك دعيا إلى مكتب الوزير وكان وقتها الأستاذ محمد فؤاد جلال... وكان الوزير مجتمعاً مع أنور السادات أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة والمسئول عن الشئون الدينية، والسيد أحمد حسن أبو السعود وكيل الوزارة، وبدأ وزير الإرشاد القومى حديثه مشيراً إلى ما تنشره الفداء بين حين وآخر... من شكاوى وتظلمات... وأضاف بأنهم على استعداد لبحث تلك الشكاوى والتظلمات وعلاجها دون الحاجة إلى نشرها.

وجرت أحاديث ومناقشات اشترك فيها الجميع، وكتب مسعد صادق بعدها فى العدد الصادر يوم 22 يناير ما يأتى بالنص:

"ما أحسن أن تلتقى القلوب قبل أن تلتقى الأيدى، لقد التقت قلوبنا فى الأسبوع الماضى مع نخبة من رواد هذا العهد... وجلسنا نتصارح إلى كلمة سواء، كان الاجتماع فى مكتب وزير الإرشاد القومى من أجل "الفداء" وحضر الاجتماع الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد والأستاذ حسن أبو السعود وكيل الوزارة، وعضو بمجلس قيادة الثورة، ثم الدكتور لويس دوس وكاتب هذه السطور، وظللنا نتحدث من الساعة الثانية إلى الرابعة والنصف بعد الظهر، وكانت روح الإخاء والسماحة تسود كل كلمة، لقد جلسوا يستمعون إلى كل ما تجيش به نفوسنا، فالتقت الرغبات مع الأمانى، ولم يكن هناك خلاف على الأهداف، فحينما تشيع فى النفوس روح الإخاء والسماحة... لا يكون هناك خلاف. ما أحسن أن تلتقى قلوبنا... قبل أن تلتقى أيدينا".


وكانت هذه آخر كلمة كتبت فى ذلك العدد، فبعدها بثلاثة أيام، تم اعتقال مسعد صادق ولويس دوس.
ويستطرد صادق فى كتابه قائلاً: "كنت أعلم أن هناك من يترصد خطواتى ويتعقبنى فى ذهابى إلى مكتبى بجريدة مصر التى كنت أعمل بها، وعند عودتى إلى بيتى بشبرا ويظل واقفاً منتظراً خروجى، ولم أكن أعرف من الذى يراقبنى، فقد كانت وجوه الرقباء تتغير، ولكننى أدركت أنهم من رجال القلم السياسى الذين كانوا يترصدون حركات الصحفيين والسياسيين المعارضين لسياسة الحكم فى ذلك الحين، ولم أعر الرقابة أو الرقباء اهتماماً، فلم يكن لى نشاط خارج على القانون، لقد اعتقلت بعد صدور العدد السادس عشر من الفداء، وكانت الأعداد موضع مراجعة دقيقة طوال الشهرين اللذين أمضيتهما معتقلاً... وكان البحث يجرى عما إذا كانت هناك مآخذ تدعو إلى التحقيق والمساءلة، ويبدو أنه لم تسفر المراجعة عن العثور على أى مأخذ... ولا على أى عبارة يمكن أن تكون موضع تحقيق... ولذا لم يوجه إلى أى اتهام أو سؤال طوال فترة اعتقالى بالسجن.
ويروى مسعد صادق ليلة اعتقاله فيقول:

يبدو أن الإنسان يحس بالصقيع أشد ما يحس، لسبب آخر غير رطوبة الجو، أو خواء الجوف... هو الخوف، فحينما ينتابه قد تسرى رعدة فى أوصاله، تضاعف من إحساسه بالبرد.
بدأ هذا الإحساس من الوهلة الأولى، التى زارنى فيها فى مكتب جريدتى بشارع الدكتور عبد الحميد سعيد زائر بدأ بالتحية، ثم قال إنه يرجو أن أصحبه لمقابلة مسئول فى مبنى وزارة الداخلية، وأدركت من عبارته أن فى الأمر شيئاً، لقد سارونى هذا الإحساس من قبل، وخاصة بعدما روى لى أحد العاملين بالمكتب أن شخصاً يتردد عليه فى غيبتى ويسأله عنى حتى إذا عرف إننى غير موجود يتجه ببصره إلى الدفتر الذى يسجل فيه أسماء الزوار ويطلع عليه وينقل أسماءهم فى ورقة... إلى أن حدث مرة أن أسرع بالإنصراف حينما لمحنى قادماً... وجريت لألحق به، ولكنى لم أدركه فقد لاذ بالهرب، ولم يكن فى دفتر الزيارات غير أسماء الزائرين، وهم من رواد الجريدة وكتابها ومن الشخصيات العامة المعروفة، وليس فى هذا النطاق أية ممارسة لنشاط غير مشروع، فما يكتب ينشر على الصحائف، وما يقال لا يقال همساً وإنما يعلن على الملأ فى الندوات والاجتماعات، وبالرغم من اطمئنانى إلى أنه ليس هناك ما يدعو إلى الرقابة أو المؤاخذة... فقد ساورنى القلق وأحسست بأن فى الأمر شيئاً، فقد كانت تذاع بين الحين والآخر أنباء عن اعتقال أشخاص من نوعيات ومستويات مختلفة... مجرد اعتقال أو تحفظ... دون أن يقترن بتوجيه اتهامات معينة إلى المعتقلين أو المتحفظ عليهم... وأحسست بموجة البرد والصقيع مرة أخرى بعد أن غادرت مكتبى ومضت بى السيارة التى كانت بانتظارى مع مندوب وزارة الداخلية... لا إلى مبنى وزارة الداخلية كما قيل لى، وإنما إلى سجن الأجانب، إننى أعرفه فقد كنت أمر عليه كل يوم فى طريقى من بيتى فى شبرا إلى مكتبى بجريدة مصر التى كنت أرأس تحريرها... وكان السجن وقتئذ يقع أمام قسم الأزبكية الآن... وبجوار مستشفى الهلال الأحمر.

كانت الليلة الأولى لحياة المعتقل... ليلة باردة من بدايتها... فحينما تحركت السيارة التى تقلنى وعشرة معتقلين آخرين من سجن الأجانب إلى السجن الحربى، كدت أرتجف من البرد بالرغم من أننى كنت أرتدى معطفاً، فقد كانت السيارة من النوع الذى يستخدمه الجيش، مغطاة بالقماش، ومكشوفة من الخلف وكانت لفحات الهواء تلطم أجساد الجالسين الذين بدأ بعضهم يرتجف وهو يحاول أن يزداد التصاقاً واقتراباً من الجالس إلى جواره، لعله يستدفئ.

وانحرفت السيارة فى نهاية طريق العباسية إلى اليمين، وأبطأت من سيرها في مدخل ثكنات الجيش... إلى أن أذن لها بالدخول وواصلت سيرها إلى أعماق الثكنات، ثم توقفت عند بوابة كبيرة، ونزل منها الضابط المرافق، وأشار علينا بأن نتبعه، وهناك شاهدنا على جدار المدخل رسماً للموت "عظمتان متعارضتان تعلوهما جمجمة" وفزع البعض لهذا الرسم وتشاءم، وفى ساحة داخلية طلب إلينا أن نقف طابوراً... ويبدو أن أحدنا أراد أن يطرد الخوف والرهبة بالمزاح، فقال موجهاً الكلام إلى رجل أسمر طويل: "إن بين المعتقلين اللواء سليمان عبد الواحد... وهو الذى ينظم الطابور" ووقفنا صفاً واحداً... وظللنا هكذا نحو ربع ساعة، عاد بعدها الضابط المرافق يشير علينا بأن نتبعه سائرين بنفس الطابور، وسار إلى جوارنا طابوراً آخر من الجنود، ودلف الضابط إلى مبنى من طابق واحد ونحن نسير خلفه، وسط المبنى عبر ممر تصطف على جانبيه غرف مفتحة الأبواب، فكان كل من يأتى عليه الدور فى الاقتراب من باب إحدى الغرف يشير إليه الجندى المجاور له بأن يدخل، وما يكاد يخطو خطوة واحدة إلى الداخل، حتى يسرع الجندى بإغلاق الباب خلفه... وهكذا فوجئت بنفسى فى الغرفة وحيداً... وهكذا حدث مع باقى المعتقلين، وبعد برهة سمعت طرقاً منبعثاً من باب إحدى الغرف وصوتاً من داخلها يقول: "افتحوا الباب" وما لبثت عدوى الطرق أن سرت إلى أبواب أخرى... يطلب الذين بداخلها فتحها...

ولم أكن أدرك مدى تأثير الباب المغلق على النفس، فقد كانت أول مرة يغلق على باب على غير إرادتى... لقد كنت فى بيتى أنام فى غرفة أغلق بابها بنفسى، فلم أحس بالضيق الذى أحس به الآن... إن الحركة السريعة التى أغلق بها الباب خلفى قد ضاعفت من هذا الضيق، فلم يسأل أحد عن مستلزماتى داخل الغرفة، ولم يقل أحد متى سيفتح الباب.

وجلت ببصرى فى الغرفة التى احتوتنى... أبصرت سريراً صغيراً مثل أسرة المستشفيات تعلوه خشبة وغطاء خفيف، وفى ركن من الغرفة تقبع قلة صغيرة وجردل ثم منضدة... هذه كل محتويات الغرفة التى كانت من قرعتى. ولم يكن هناك مقعد للجلوس... فجلست على السرير ساهماً مستسلماً.
ودعانا البكباشى نظيم قائد السجن الحربى إلى الاجتماع فى مكتبه، وقال لنا إن هناك تعليمات لأبد من اتباعها، ومنها حظر اللقاء بين المعتقلين فى فناء السجن فى أثناء الفسحة، وأن تكون المسافة بين كل معتقل وآخر خمسة عشر متراً، وكنا نحو عشرين معتقلاً، والفناء ضيق لا تتجاوز مساحته الثلاثين متراً، ويستحيل معه أن تبلغ المسافة بين كل واحد وآخر هذا القدر... ولكن هذه كانت التعليمات.
ولم يقل لى أحد كم سأقضى فى هذا المكان... أو لماذا جىء بى إليه، إن عدم معرفة الإنسان لمصيره فيما قد يقع له من أحداث ومفاجآت.. يضاعف من آلامه النفسية... لعله لو عرف استراح... لأدخل فى حسابه ما سيدبر من أموره... ما سيفعل فى نهاية المطاف... أما أن يبقى معلقاً... يضرب أخماساً فى أسداس، ويتوقع أشياء كثيرة قد تحدث... فإن فيه تعذيباً للنفس يفوق عذاب العقوبة نفسها.
ومن الصور العجيبة التى شاهدتها فى السجن الحربى، تلك التى طالعتنى فى أيامى الأولى به، فقد كنت فيه كطارق غريب فى مكان مجهول... يتلمس فيه مكانه ويتحسس موطئ قدميه، ويتلمس من يعرفه بمعالم المكان أو وسيلة الحياة فيه... لأن الحزن يلفنى، فقد كنت قلقاً على من تركت بالمدينة، والدتى ووالدى... وبيتى ومكاتب جريدتى... وما يستتبعها من تبعات ومسئوليات لا حيلة لى فى مباشرتها أو تصريفها، شىء واحد كان يوفر بعض الطمأنينة فى نفسى، هو وجود أبى الذى لم يكن قد رحل بعد، رغم أنه كان مجهداً، ولكننى كنت قلقاً على أمى، فقد كانت تمرض وتلازم الفراش لأقل بادرة، فكيف بها حينما لا ترانى، وحينما يترامى إليها أننى حبيس المعتقل، إننى قلق على حياتها من وقع الصدمة.

وكان من بين المعتقلين محافظ القاهرة كامل القاويش، والأستاذ فتحى الرملى الصحفى، والبكباشى محمد الجزار الذى كان ضابطاً بالقلم السياسى وقد حاول الانتحار فى السجن، واللواء حسن سرى عامر، وحسنى الدمنهورى، وفؤاد سراج الدين، والنبيل عباس حليم الذى كان معتاداً على دخول السجن نظراً لجهوده المتفانية للنهوض بالعمال والمطالبة بحقوقهم، مما جعله عرضه للاعتقال مرات، وكان فى أوقات الفراغ يرسم لوحات كاريكاتيرية للمعتقلين، وبينهما لوحة لمسعد صادق وهو يمشى فى الفناء بالروب.

وفى صباح أحد الأيام، أبلغنا ضابط السجن أننا سنغادره اليوم، هكذا قيل لى وللدكتور لويس دوس ولمعتقلين آخرين، وسألناه عما إذا كنا سنغادره نهائياً إلى بيوتنا، أم أننا سننقل إلى سجن آخر، ورد بأنه لا يعرف وأن الأوامر أن نستعد للرحيل، أما إلى أين فلا يدرى، وهكذا هو دائماً "الأوامر كده" أما غير ذلك فلا يدريه... وقد لا يجيب عليه... ولكن شخصاً واحداً كان يعرف، هو اللواء حسين سرى عامر، فقد قال لنا إنه ليس خروجاً بإفراج، وإنما هو نقل إلى سجن آخر، وعلامته على ذلك بخبرته، أن السيارة التى أعدت لنقلنا، مخصصة لنقل المعتقلين إلى السجن، وليس إلى بيوتهم.
وصدق قول اللواء حسين سرى عامر، فقد وجدنا أنفسنا فى سجن الأجانب بباب الحديد، وكان يقع إلى جوار مستشفى الهلال الأحمر قبالة قسم شرطة الأزبكية، وقد أصبحت تشغل أرضه الآن محطة بنزين، وكنت أعرف هذا السجن، فطالما مررت عليه فى الطريق بين مكتبى بوسط المدينة وبيتى فى شبرا، ثم عرفته بعد ذلك حينما أمضيت به بضع ساعات بعد اعتقالى مباشرة وقبل نقلى إلى السجن الحربى، وها نحن نعود مرة أخرى إلى سجن الأجانب ولعله خطوة نحو الإفراج، فهكذا توقعنا، وأكده لنا العارفون.

وكان أبى يأتى إلى السجن بين الحين والآخر حاملاً الملابس وبعض الأطعمة، يتركها فى مكتب السجن دون أن يسمح له بالاقتراب من موضع إقامتى، فأردت أن أبعث إليه بما يطمئنه هو ووالدتى فدسست فى الشراب مع الملابس التى أعددتها لإرسالها إلى البيت لغسلها ورقة صغيرة لا تزيد مساحتها عن سنتي واحد عرضاً وثلاثة سنتيمترات طولاً كتبت فيها بضع كلمات بخط دقيق ذكرت فيها: "إننا لم نفعل شيئاً يخالف القانون أو يستوجب العقاب، فأرجو أن تطمئن والدتى إلى ذلك".
...
ورأيت أمى لأول مرة منذ اعتقلت، كنت أطل من نافذة غرفتى بسجن الأجانب، من خلال فجوة مستديرة بين قضبان النافذة، وعرفتها من مشيتها ومن ردائها الأسود وهى تروح وتجىء قبالة سور السجن من ناحية شارع الجلاء، لم أبصر وجهها، فقد كان يحجبه حاجز من الحصير يلف السور، كانت تسرع الخطى كأنها تهرب مذعورة ممن يلاحقها، ولم يكن أحد يلاحقها، ولعلها خشيت لو أبطأت الخطى أن يتعرض لها أحد الحراس، أو يفطن لهويتها فيحول دون مرورها... لم تشأ أن تدع فرصة لأحد يسألها لماذا تسرع هكذا مجيئاً وذهاباً، إنها تخشى على أكثر مما تخشى على نفسها، تخشى أن يلحق بى سوء من جراء حضورها، فهى تكتفى بأن تمر بسور السجن الذى يحتوينى، لم ترنى، فقد كانت تبدو كالمذعورة أو الملهوفة، ولكننى رأيتها حينما أخرجت رأسى من فجوة القضبان وأمعنت النظر فيها... لمحتها بوجهها من خلال فتحات الحصير الذى يحيط بالسور، وفرحت لرؤيتها، ودمعت عيناى إشفاقاً عليها من أن ترانى فى هذا المكان، ولا تستطيع لقائى... لقد أسرعت بالحضور حينما أخبرها أبى بنقلى من السجن الحربى إلى سجن الأجانب، ولم تكن تستطيع أن تزورنى فى السجن الأول لوقوعه فى أعماق ثكنات العباسية، ولم يكن مصرحاً لأحد بزيارته، ولم يكن ميسوراً الاقتراب منه.

وأردت أن أوجه نظر أمى إلى مكان وجودى، وفكرت فى وسيلة فى إدخال الطمأنينة إلى قلبها... ولم يكن قد حان بعد موعد خروجى إلى الفناء للفسحة، فقد كان المعتقلون يخرجون إلى الفناء على دفعات... وكانت نوبة الفسحة هذه الفترة لمجموعة بينها "رشاد مهنا" الذى كان وصياً على العرش واستوقفته وهو يسرع الخطى أثناء مشيه تحت نافذتى، وقلت له إن أمى تسير هناك خارج السور مجيئاً وذهاباً، وأشرت له عليها، وناولته جنيهاً ورقياً كان فى جيبى، وطلبت إليه أن يقدمه لأمى من خلال السور ويطمئنها إلى وجودى.

وشاهدت من نافذتى وصى العرش السابق وهو يسرع إلى حافة السور ويمد يده بالجنيه من خلال فتحات الحصير ويناوله إلى أمى، وسمعته وهو يقول لها إنه من ابنها، وهو بخير... ولمحت اللهفة على وجهها لرؤيتى وأشار هو لها إلى النافذة التى أطل منها... ولكنها ما لبثت أن أسرعت الخطى حينما أبصرت جندى الحراسة يقترب منها... وعاد إلى وصى العرش السابق يقول إنه مسرور لأداء هذه المهمة، وإنه سيزورنا فى البيت بعدما يتم الإفراج عنا. وكانت تحضر يومياً... صباحاً ومساءً، وبقدر فرحتى لرؤية أمى... بقدر أساى وحزنى لما استشعرته من معاناتها للحضور إلى السجن يومياً صباحاً ومساءً، لم تتخلف يوماً واحداً... ولم تكل قدماها من السير الساعات الطوال حول السجن، لقد كنت أراقبها من نافذتى، وأبعث إليها بمن يطمئنها ويرجوها بأن تنصرف عائدة إلى البيت، ولكنها لم تكن تنصرف، تظل تمشى الساعات الطوال حول السجن إلى أن تكل قدماها... وأراها وهى تبطئ الخطى وتكاد تتهاوى... وكان هذا يحزننى، ولم يكن بى حيلة فى منعه، ولم يكن لأمى أيضاً حيلة فى العدول عنها، فلم يكن قلبها يطاوعها فى الابتعاد عنى... لعلها كانت تحس بالراحة فى عنائها... مادامت تقترب من الموضع الذى أقيم فيه.

وفى مرة أخرى اقتربت أمى من باب السجن، وما كادت ترانى فى الفناء حتى دنت منه أكثر، وتحدثت بصوت مسموع عمن يسأل عنى من الأصحاب، ثم جاء والدى يحدثنى بدوره عما يطمئننى، لقد بدأ الاثنان فى هذه المرة أكثر تماسكاً وتجلداً... ولعلهما فعلا ذلك من أجلى... من أجل إدخال الطمأنينة إلى نفسى... إنهما يفعلان هذا فى الوقت الذى يعتصر فيه قلبيهما.
وقبيل ظهر 15 مارس سنة 1953 جاءنى من رجال السجن من يدعونى أن أستعد لمقابلة مسئول خارج السجن والتقيت بزكريا محى الدين الذى كان مديراً للمخابرات، وسألته عن سبب الاعتقال، فأجابنى بأن السبب هو بعض ما كتب بجريدة الفداء، ثم طلب منى أن أخفف من حدة تلك الكتابة، وتم الإفراج عنى وعن الدكتور دوس.

وكان على بعد خروجى من السجن الحربى أن أصحح وأوضح ما قد علق بالأذهان من تصورات ومفاهيم عن سبب الاعتقال... وأن أرمم ما تهدم من بنيان سنى كفاح ونضال... ليس بنياناً من أحجار أو رمال، وإنما مما استقر فى الأفهام، وما ارتسم فى الخواطر من صور...."
وبدأ مسعد صادق بعد خروجه من السجن رحلة كفاح أخرى من أجل مواصلة رسالته التى عكف على تأديتها، وإعادة قيده بنقابة الصحفيين حيث كان قد فصل منها أثناء تواجده بالسجن رغم أنه كان من الرعيل الأول لإنشائها!!! وبالفعل أعيد قيده وانطلق قلمه فى العديد من الصحف والمجلات منها الفداء الجديد والنيل والمستقبل واليقظة ووطنى، وظل مواصلاً فى الكتابة والدفاع عن المظلومين والمضطهدين طوال خمسة وستين عاماً التى كرسها لخدمة صاحبة الجلالة إلى أن انتقل من عالمنا فى 25 سبتمبر سنة 2000 مخلداً لنا تراثاً فكرياً وتاريخياً موثقاً يكشف لنا عن تاريخ مصر فى تلك الفترة.