السبت، 25 سبتمبر 2010

مذكرات سجين من عهد الثورة مسعد صادق... وحينما احتوتنى الجدران السميكة

هذه المذكرات من صميم الحياة، إنها صور للأشخاص الذين التقيتهم، والأحداث التى واجهتها، وعاصرتها، بعضها مشرق وضاء، والبعض الآخر لابد من أن يلقى عليه الضياء، وهى صور مجردة من الرتوش، بلا تزويق ولا تنميق، فإذا بدا جانب منها معتماً، فليست جميع الجوانب كذلك..

هكذا استهل الصحفى "مسعد صادق" كتابه "حينما احتوتنى الجدران السميكة" والذى روى فيه تجربة اعتقاله على مدار شهرين بالسجن الحربى وسجن الأجانب، والمواجهات والمصادمات التى شُنت عليه لتعويقه عن أداء رسالته التى كرسها للدفاع عن المظلومين والمضطهدين ومن ليس لهم من يدافع عنهم، وعلى ضوء ذلك أصدر جريدته "الفداء" سنة 1952 لتكون نافذة للمضطهدين تنطق بالآمهم وتكون هى لسان حالهم، مُتصدية لدعاوى الرجعية ومُنددة بالتطرف الذى يتستر وراء شعارات مفرقة، ومُكافحة للتخلف الذى يحاول أن يعود بالمجتمع إلى جاهلية الماضى البعيد صدرت الفداء، وأحدث صدورها دوياً هائلاً، فقد كانت تحمل كلمات بأقلام عدد من الشخصيات وأصحاب الرأى أمثال إبراهيم عبد الهادى رئيس الوزراء السابق، ومكرم عبيد، ونجيب الهلالى وكامل مرسى، والدكتور المنياوى وحبيب المصرى، ومحمود سليمان غنام، وسيد مصطفى، ورياض الجمل، وميريت غالى..وغيرهم.

وخاضت الفداء معارك أكثر جرأة فى تاريخ الصحافة فكتبت سلسلة مقالات بعنوان "حينما كانت التفرقة سياسة عليا" وبعض ما جاء بها: "كانت التفرقة فى عهد الملك سياسة عليا، وكانت الكنائس فى مقدمة ما استهدف لهذه السياسة المفرقة، فإن تصريحات بنائها كانت تجتاز العقبات التى تبنيها فى طريقها وزارة الداخلية، حتى إذا انتهت عند القصر الملكى... ألقيت على الرف"
جهرت الفداء بهذا فى الوقت الذى صمتت فيه بقية الصحف، لتكون لسان حال المواطن البسيط الحالم بدار عبادة. وحينما حل موعد صدور العدد الثالث من الفداء قامت ثورة الجيش وتقرر فرض الرقابة على الصحف، وانتدبت الثورة أحد الضباط للقيام بمهمة المراجعة وكان "البكباشى سامى يسى"، إلا أن الفداء لم تستسلم للرقابة بل صرخت منادية بأنه: "ينبغى إلغاء شروط التصريح وترك الناس يعبدون ربهم كيفما يشاءون".

كما خاضت الفداء معركة فصل الدين عن الدولة، منتهزة فرصة الإعداد لدستور جديد فى ظل الحكام الجدد، فتصدر العنوان الرئيسى لعدد 29 ديسمبر سنة 1952 "المطالبة بدستور قومى يصون الوحدة الوطنية" - "حذار من النص فى الدستور على دين الدولة.. الدولة الحرة كل الأديان لديها سواء".
ولأجل الرسالة التى بزغت من أجلها الفداء ذهبت هى ذاتها "فداء" وكانت ضريبة فادحة دفعها مسعد صادق من حريته الشخصية، لكنه كان يعدها تدشيناً لرسالة الفداء وبعثاً لها، لتبزغ من جديد تحت اسم الفداء الجديد، بعد أن لاقى مسعد صادق الكثير من العقبات والصعوبات التي دفعت به إلى السجن الحربى وسجن الأجانب مدة شهرين.

ويقول مسعد صادق فى كتابه: "منذ صدور العدد الأول من الفداء وأنا أواجه سلسلة من العناء... ولكن رؤيتى لها منشورة تتداولها الأيدى، ويتحدث عنها الناس، كانت تخفف من عنائى... لقد ألقيت على كاهلى معظم العبء فى التحرير والإصدار، وكان هذا يستنفذ الكثير من الوقت والجهد، ولم تكن لى حيلة لتجنب العبء، فليس فى وسعى أن أستخدم عديداً من الأيدى والأقلام، لأنه يتطلب نفقات باهظة لا قدرة لى عليها، ولم يكن ثقل العبء وحده هو مصدر المتاعب، وإنما كانت هناك متاعب أخرى من جراء ما يتوجسه المسؤلون فى الأجهزة الإدارية ورقابة النشر من الصحيفة، وقد عرفوا عنى فيما كتبت قبلاً من مقالات يومية أننى لا أخشى فى قول الحق شيئاً، وأننى لا أتردد فى أن أجاهر بما يحجم كثيرون فى تناوله أو الإشارة إليه من موضوعات أو مشكلات أو شكاوى، وعرفوا عنى أننى لست ممن يباع أو يشترى فى وقت كان يحفل فيه الميدان بعارضى الأقلام فى سوق البيع والشراء.. ولم أكن يوماً عميلاً لأية جهة أو سلطة فى الوقت الذى كثر فيه العملاء والوسطاء... عرف المسؤولون هذا عنى، وعرفوا أن شيئاً لا يمكن أن يستميلنى أو يرهبنى... ومن هنا كانت خشيتهم من صحيفتى.
لقد جاء اعتقالى فى أعقاب عيد الميلاد، فى يوم 15 يناير على وجه التحديد ولم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى هذا الحد، لأننى كنت حريصاً على التزام الجدية فى أداء رسالتى الصحفية، ولكننى لا أدرى كيف ساورنى فى ذلك الحين إحساس بأن أمراً سيقع، وسجلت هذا الإحساس فى الفداء فكتبت بالحرف الواحد: لا أدرى ماذا الذى أعاد إلى خاطرى فى مطلع عيد الميلاد، ذكريات ميلاد العام الماضى، فرأيتنى فى شغل عن العيد بحشد من الذكرى وفيض من الأشجان، لا أدرى مبعث هذه الذكرى وهذه الأشجان... ولكن الذى أدريه هو أن قلبى لم يطاوعنى إلى أن أنصرف إلى مباهج العيد كما كان الحال العام الماضى، لأننى لم أجد مكاناً لهذه المباهج... ما بال أحاسيس قلبى فى هذا العام مفعمة بالذكرى والشجن"، وقد صدق إحاسسه فقد اتصل به تليفونياً مسئول من وزارة الإرشاد القومى يدعوه للحضور ومعه الدكتور لويس دوس الذى كان يكتب بالصحيفة إلى الحضور إلى دار الوزارة ظهراً، وهناك دعيا إلى مكتب الوزير وكان وقتها الأستاذ محمد فؤاد جلال... وكان الوزير مجتمعاً مع أنور السادات أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة والمسئول عن الشئون الدينية، والسيد أحمد حسن أبو السعود وكيل الوزارة، وبدأ وزير الإرشاد القومى حديثه مشيراً إلى ما تنشره الفداء بين حين وآخر... من شكاوى وتظلمات... وأضاف بأنهم على استعداد لبحث تلك الشكاوى والتظلمات وعلاجها دون الحاجة إلى نشرها.

وجرت أحاديث ومناقشات اشترك فيها الجميع، وكتب مسعد صادق بعدها فى العدد الصادر يوم 22 يناير ما يأتى بالنص:

"ما أحسن أن تلتقى القلوب قبل أن تلتقى الأيدى، لقد التقت قلوبنا فى الأسبوع الماضى مع نخبة من رواد هذا العهد... وجلسنا نتصارح إلى كلمة سواء، كان الاجتماع فى مكتب وزير الإرشاد القومى من أجل "الفداء" وحضر الاجتماع الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد والأستاذ حسن أبو السعود وكيل الوزارة، وعضو بمجلس قيادة الثورة، ثم الدكتور لويس دوس وكاتب هذه السطور، وظللنا نتحدث من الساعة الثانية إلى الرابعة والنصف بعد الظهر، وكانت روح الإخاء والسماحة تسود كل كلمة، لقد جلسوا يستمعون إلى كل ما تجيش به نفوسنا، فالتقت الرغبات مع الأمانى، ولم يكن هناك خلاف على الأهداف، فحينما تشيع فى النفوس روح الإخاء والسماحة... لا يكون هناك خلاف. ما أحسن أن تلتقى قلوبنا... قبل أن تلتقى أيدينا".


وكانت هذه آخر كلمة كتبت فى ذلك العدد، فبعدها بثلاثة أيام، تم اعتقال مسعد صادق ولويس دوس.
ويستطرد صادق فى كتابه قائلاً: "كنت أعلم أن هناك من يترصد خطواتى ويتعقبنى فى ذهابى إلى مكتبى بجريدة مصر التى كنت أعمل بها، وعند عودتى إلى بيتى بشبرا ويظل واقفاً منتظراً خروجى، ولم أكن أعرف من الذى يراقبنى، فقد كانت وجوه الرقباء تتغير، ولكننى أدركت أنهم من رجال القلم السياسى الذين كانوا يترصدون حركات الصحفيين والسياسيين المعارضين لسياسة الحكم فى ذلك الحين، ولم أعر الرقابة أو الرقباء اهتماماً، فلم يكن لى نشاط خارج على القانون، لقد اعتقلت بعد صدور العدد السادس عشر من الفداء، وكانت الأعداد موضع مراجعة دقيقة طوال الشهرين اللذين أمضيتهما معتقلاً... وكان البحث يجرى عما إذا كانت هناك مآخذ تدعو إلى التحقيق والمساءلة، ويبدو أنه لم تسفر المراجعة عن العثور على أى مأخذ... ولا على أى عبارة يمكن أن تكون موضع تحقيق... ولذا لم يوجه إلى أى اتهام أو سؤال طوال فترة اعتقالى بالسجن.
ويروى مسعد صادق ليلة اعتقاله فيقول:

يبدو أن الإنسان يحس بالصقيع أشد ما يحس، لسبب آخر غير رطوبة الجو، أو خواء الجوف... هو الخوف، فحينما ينتابه قد تسرى رعدة فى أوصاله، تضاعف من إحساسه بالبرد.
بدأ هذا الإحساس من الوهلة الأولى، التى زارنى فيها فى مكتب جريدتى بشارع الدكتور عبد الحميد سعيد زائر بدأ بالتحية، ثم قال إنه يرجو أن أصحبه لمقابلة مسئول فى مبنى وزارة الداخلية، وأدركت من عبارته أن فى الأمر شيئاً، لقد سارونى هذا الإحساس من قبل، وخاصة بعدما روى لى أحد العاملين بالمكتب أن شخصاً يتردد عليه فى غيبتى ويسأله عنى حتى إذا عرف إننى غير موجود يتجه ببصره إلى الدفتر الذى يسجل فيه أسماء الزوار ويطلع عليه وينقل أسماءهم فى ورقة... إلى أن حدث مرة أن أسرع بالإنصراف حينما لمحنى قادماً... وجريت لألحق به، ولكنى لم أدركه فقد لاذ بالهرب، ولم يكن فى دفتر الزيارات غير أسماء الزائرين، وهم من رواد الجريدة وكتابها ومن الشخصيات العامة المعروفة، وليس فى هذا النطاق أية ممارسة لنشاط غير مشروع، فما يكتب ينشر على الصحائف، وما يقال لا يقال همساً وإنما يعلن على الملأ فى الندوات والاجتماعات، وبالرغم من اطمئنانى إلى أنه ليس هناك ما يدعو إلى الرقابة أو المؤاخذة... فقد ساورنى القلق وأحسست بأن فى الأمر شيئاً، فقد كانت تذاع بين الحين والآخر أنباء عن اعتقال أشخاص من نوعيات ومستويات مختلفة... مجرد اعتقال أو تحفظ... دون أن يقترن بتوجيه اتهامات معينة إلى المعتقلين أو المتحفظ عليهم... وأحسست بموجة البرد والصقيع مرة أخرى بعد أن غادرت مكتبى ومضت بى السيارة التى كانت بانتظارى مع مندوب وزارة الداخلية... لا إلى مبنى وزارة الداخلية كما قيل لى، وإنما إلى سجن الأجانب، إننى أعرفه فقد كنت أمر عليه كل يوم فى طريقى من بيتى فى شبرا إلى مكتبى بجريدة مصر التى كنت أرأس تحريرها... وكان السجن وقتئذ يقع أمام قسم الأزبكية الآن... وبجوار مستشفى الهلال الأحمر.

كانت الليلة الأولى لحياة المعتقل... ليلة باردة من بدايتها... فحينما تحركت السيارة التى تقلنى وعشرة معتقلين آخرين من سجن الأجانب إلى السجن الحربى، كدت أرتجف من البرد بالرغم من أننى كنت أرتدى معطفاً، فقد كانت السيارة من النوع الذى يستخدمه الجيش، مغطاة بالقماش، ومكشوفة من الخلف وكانت لفحات الهواء تلطم أجساد الجالسين الذين بدأ بعضهم يرتجف وهو يحاول أن يزداد التصاقاً واقتراباً من الجالس إلى جواره، لعله يستدفئ.

وانحرفت السيارة فى نهاية طريق العباسية إلى اليمين، وأبطأت من سيرها في مدخل ثكنات الجيش... إلى أن أذن لها بالدخول وواصلت سيرها إلى أعماق الثكنات، ثم توقفت عند بوابة كبيرة، ونزل منها الضابط المرافق، وأشار علينا بأن نتبعه، وهناك شاهدنا على جدار المدخل رسماً للموت "عظمتان متعارضتان تعلوهما جمجمة" وفزع البعض لهذا الرسم وتشاءم، وفى ساحة داخلية طلب إلينا أن نقف طابوراً... ويبدو أن أحدنا أراد أن يطرد الخوف والرهبة بالمزاح، فقال موجهاً الكلام إلى رجل أسمر طويل: "إن بين المعتقلين اللواء سليمان عبد الواحد... وهو الذى ينظم الطابور" ووقفنا صفاً واحداً... وظللنا هكذا نحو ربع ساعة، عاد بعدها الضابط المرافق يشير علينا بأن نتبعه سائرين بنفس الطابور، وسار إلى جوارنا طابوراً آخر من الجنود، ودلف الضابط إلى مبنى من طابق واحد ونحن نسير خلفه، وسط المبنى عبر ممر تصطف على جانبيه غرف مفتحة الأبواب، فكان كل من يأتى عليه الدور فى الاقتراب من باب إحدى الغرف يشير إليه الجندى المجاور له بأن يدخل، وما يكاد يخطو خطوة واحدة إلى الداخل، حتى يسرع الجندى بإغلاق الباب خلفه... وهكذا فوجئت بنفسى فى الغرفة وحيداً... وهكذا حدث مع باقى المعتقلين، وبعد برهة سمعت طرقاً منبعثاً من باب إحدى الغرف وصوتاً من داخلها يقول: "افتحوا الباب" وما لبثت عدوى الطرق أن سرت إلى أبواب أخرى... يطلب الذين بداخلها فتحها...

ولم أكن أدرك مدى تأثير الباب المغلق على النفس، فقد كانت أول مرة يغلق على باب على غير إرادتى... لقد كنت فى بيتى أنام فى غرفة أغلق بابها بنفسى، فلم أحس بالضيق الذى أحس به الآن... إن الحركة السريعة التى أغلق بها الباب خلفى قد ضاعفت من هذا الضيق، فلم يسأل أحد عن مستلزماتى داخل الغرفة، ولم يقل أحد متى سيفتح الباب.

وجلت ببصرى فى الغرفة التى احتوتنى... أبصرت سريراً صغيراً مثل أسرة المستشفيات تعلوه خشبة وغطاء خفيف، وفى ركن من الغرفة تقبع قلة صغيرة وجردل ثم منضدة... هذه كل محتويات الغرفة التى كانت من قرعتى. ولم يكن هناك مقعد للجلوس... فجلست على السرير ساهماً مستسلماً.
ودعانا البكباشى نظيم قائد السجن الحربى إلى الاجتماع فى مكتبه، وقال لنا إن هناك تعليمات لأبد من اتباعها، ومنها حظر اللقاء بين المعتقلين فى فناء السجن فى أثناء الفسحة، وأن تكون المسافة بين كل معتقل وآخر خمسة عشر متراً، وكنا نحو عشرين معتقلاً، والفناء ضيق لا تتجاوز مساحته الثلاثين متراً، ويستحيل معه أن تبلغ المسافة بين كل واحد وآخر هذا القدر... ولكن هذه كانت التعليمات.
ولم يقل لى أحد كم سأقضى فى هذا المكان... أو لماذا جىء بى إليه، إن عدم معرفة الإنسان لمصيره فيما قد يقع له من أحداث ومفاجآت.. يضاعف من آلامه النفسية... لعله لو عرف استراح... لأدخل فى حسابه ما سيدبر من أموره... ما سيفعل فى نهاية المطاف... أما أن يبقى معلقاً... يضرب أخماساً فى أسداس، ويتوقع أشياء كثيرة قد تحدث... فإن فيه تعذيباً للنفس يفوق عذاب العقوبة نفسها.
ومن الصور العجيبة التى شاهدتها فى السجن الحربى، تلك التى طالعتنى فى أيامى الأولى به، فقد كنت فيه كطارق غريب فى مكان مجهول... يتلمس فيه مكانه ويتحسس موطئ قدميه، ويتلمس من يعرفه بمعالم المكان أو وسيلة الحياة فيه... لأن الحزن يلفنى، فقد كنت قلقاً على من تركت بالمدينة، والدتى ووالدى... وبيتى ومكاتب جريدتى... وما يستتبعها من تبعات ومسئوليات لا حيلة لى فى مباشرتها أو تصريفها، شىء واحد كان يوفر بعض الطمأنينة فى نفسى، هو وجود أبى الذى لم يكن قد رحل بعد، رغم أنه كان مجهداً، ولكننى كنت قلقاً على أمى، فقد كانت تمرض وتلازم الفراش لأقل بادرة، فكيف بها حينما لا ترانى، وحينما يترامى إليها أننى حبيس المعتقل، إننى قلق على حياتها من وقع الصدمة.

وكان من بين المعتقلين محافظ القاهرة كامل القاويش، والأستاذ فتحى الرملى الصحفى، والبكباشى محمد الجزار الذى كان ضابطاً بالقلم السياسى وقد حاول الانتحار فى السجن، واللواء حسن سرى عامر، وحسنى الدمنهورى، وفؤاد سراج الدين، والنبيل عباس حليم الذى كان معتاداً على دخول السجن نظراً لجهوده المتفانية للنهوض بالعمال والمطالبة بحقوقهم، مما جعله عرضه للاعتقال مرات، وكان فى أوقات الفراغ يرسم لوحات كاريكاتيرية للمعتقلين، وبينهما لوحة لمسعد صادق وهو يمشى فى الفناء بالروب.

وفى صباح أحد الأيام، أبلغنا ضابط السجن أننا سنغادره اليوم، هكذا قيل لى وللدكتور لويس دوس ولمعتقلين آخرين، وسألناه عما إذا كنا سنغادره نهائياً إلى بيوتنا، أم أننا سننقل إلى سجن آخر، ورد بأنه لا يعرف وأن الأوامر أن نستعد للرحيل، أما إلى أين فلا يدرى، وهكذا هو دائماً "الأوامر كده" أما غير ذلك فلا يدريه... وقد لا يجيب عليه... ولكن شخصاً واحداً كان يعرف، هو اللواء حسين سرى عامر، فقد قال لنا إنه ليس خروجاً بإفراج، وإنما هو نقل إلى سجن آخر، وعلامته على ذلك بخبرته، أن السيارة التى أعدت لنقلنا، مخصصة لنقل المعتقلين إلى السجن، وليس إلى بيوتهم.
وصدق قول اللواء حسين سرى عامر، فقد وجدنا أنفسنا فى سجن الأجانب بباب الحديد، وكان يقع إلى جوار مستشفى الهلال الأحمر قبالة قسم شرطة الأزبكية، وقد أصبحت تشغل أرضه الآن محطة بنزين، وكنت أعرف هذا السجن، فطالما مررت عليه فى الطريق بين مكتبى بوسط المدينة وبيتى فى شبرا، ثم عرفته بعد ذلك حينما أمضيت به بضع ساعات بعد اعتقالى مباشرة وقبل نقلى إلى السجن الحربى، وها نحن نعود مرة أخرى إلى سجن الأجانب ولعله خطوة نحو الإفراج، فهكذا توقعنا، وأكده لنا العارفون.

وكان أبى يأتى إلى السجن بين الحين والآخر حاملاً الملابس وبعض الأطعمة، يتركها فى مكتب السجن دون أن يسمح له بالاقتراب من موضع إقامتى، فأردت أن أبعث إليه بما يطمئنه هو ووالدتى فدسست فى الشراب مع الملابس التى أعددتها لإرسالها إلى البيت لغسلها ورقة صغيرة لا تزيد مساحتها عن سنتي واحد عرضاً وثلاثة سنتيمترات طولاً كتبت فيها بضع كلمات بخط دقيق ذكرت فيها: "إننا لم نفعل شيئاً يخالف القانون أو يستوجب العقاب، فأرجو أن تطمئن والدتى إلى ذلك".
...
ورأيت أمى لأول مرة منذ اعتقلت، كنت أطل من نافذة غرفتى بسجن الأجانب، من خلال فجوة مستديرة بين قضبان النافذة، وعرفتها من مشيتها ومن ردائها الأسود وهى تروح وتجىء قبالة سور السجن من ناحية شارع الجلاء، لم أبصر وجهها، فقد كان يحجبه حاجز من الحصير يلف السور، كانت تسرع الخطى كأنها تهرب مذعورة ممن يلاحقها، ولم يكن أحد يلاحقها، ولعلها خشيت لو أبطأت الخطى أن يتعرض لها أحد الحراس، أو يفطن لهويتها فيحول دون مرورها... لم تشأ أن تدع فرصة لأحد يسألها لماذا تسرع هكذا مجيئاً وذهاباً، إنها تخشى على أكثر مما تخشى على نفسها، تخشى أن يلحق بى سوء من جراء حضورها، فهى تكتفى بأن تمر بسور السجن الذى يحتوينى، لم ترنى، فقد كانت تبدو كالمذعورة أو الملهوفة، ولكننى رأيتها حينما أخرجت رأسى من فجوة القضبان وأمعنت النظر فيها... لمحتها بوجهها من خلال فتحات الحصير الذى يحيط بالسور، وفرحت لرؤيتها، ودمعت عيناى إشفاقاً عليها من أن ترانى فى هذا المكان، ولا تستطيع لقائى... لقد أسرعت بالحضور حينما أخبرها أبى بنقلى من السجن الحربى إلى سجن الأجانب، ولم تكن تستطيع أن تزورنى فى السجن الأول لوقوعه فى أعماق ثكنات العباسية، ولم يكن مصرحاً لأحد بزيارته، ولم يكن ميسوراً الاقتراب منه.

وأردت أن أوجه نظر أمى إلى مكان وجودى، وفكرت فى وسيلة فى إدخال الطمأنينة إلى قلبها... ولم يكن قد حان بعد موعد خروجى إلى الفناء للفسحة، فقد كان المعتقلون يخرجون إلى الفناء على دفعات... وكانت نوبة الفسحة هذه الفترة لمجموعة بينها "رشاد مهنا" الذى كان وصياً على العرش واستوقفته وهو يسرع الخطى أثناء مشيه تحت نافذتى، وقلت له إن أمى تسير هناك خارج السور مجيئاً وذهاباً، وأشرت له عليها، وناولته جنيهاً ورقياً كان فى جيبى، وطلبت إليه أن يقدمه لأمى من خلال السور ويطمئنها إلى وجودى.

وشاهدت من نافذتى وصى العرش السابق وهو يسرع إلى حافة السور ويمد يده بالجنيه من خلال فتحات الحصير ويناوله إلى أمى، وسمعته وهو يقول لها إنه من ابنها، وهو بخير... ولمحت اللهفة على وجهها لرؤيتى وأشار هو لها إلى النافذة التى أطل منها... ولكنها ما لبثت أن أسرعت الخطى حينما أبصرت جندى الحراسة يقترب منها... وعاد إلى وصى العرش السابق يقول إنه مسرور لأداء هذه المهمة، وإنه سيزورنا فى البيت بعدما يتم الإفراج عنا. وكانت تحضر يومياً... صباحاً ومساءً، وبقدر فرحتى لرؤية أمى... بقدر أساى وحزنى لما استشعرته من معاناتها للحضور إلى السجن يومياً صباحاً ومساءً، لم تتخلف يوماً واحداً... ولم تكل قدماها من السير الساعات الطوال حول السجن، لقد كنت أراقبها من نافذتى، وأبعث إليها بمن يطمئنها ويرجوها بأن تنصرف عائدة إلى البيت، ولكنها لم تكن تنصرف، تظل تمشى الساعات الطوال حول السجن إلى أن تكل قدماها... وأراها وهى تبطئ الخطى وتكاد تتهاوى... وكان هذا يحزننى، ولم يكن بى حيلة فى منعه، ولم يكن لأمى أيضاً حيلة فى العدول عنها، فلم يكن قلبها يطاوعها فى الابتعاد عنى... لعلها كانت تحس بالراحة فى عنائها... مادامت تقترب من الموضع الذى أقيم فيه.

وفى مرة أخرى اقتربت أمى من باب السجن، وما كادت ترانى فى الفناء حتى دنت منه أكثر، وتحدثت بصوت مسموع عمن يسأل عنى من الأصحاب، ثم جاء والدى يحدثنى بدوره عما يطمئننى، لقد بدأ الاثنان فى هذه المرة أكثر تماسكاً وتجلداً... ولعلهما فعلا ذلك من أجلى... من أجل إدخال الطمأنينة إلى نفسى... إنهما يفعلان هذا فى الوقت الذى يعتصر فيه قلبيهما.
وقبيل ظهر 15 مارس سنة 1953 جاءنى من رجال السجن من يدعونى أن أستعد لمقابلة مسئول خارج السجن والتقيت بزكريا محى الدين الذى كان مديراً للمخابرات، وسألته عن سبب الاعتقال، فأجابنى بأن السبب هو بعض ما كتب بجريدة الفداء، ثم طلب منى أن أخفف من حدة تلك الكتابة، وتم الإفراج عنى وعن الدكتور دوس.

وكان على بعد خروجى من السجن الحربى أن أصحح وأوضح ما قد علق بالأذهان من تصورات ومفاهيم عن سبب الاعتقال... وأن أرمم ما تهدم من بنيان سنى كفاح ونضال... ليس بنياناً من أحجار أو رمال، وإنما مما استقر فى الأفهام، وما ارتسم فى الخواطر من صور...."
وبدأ مسعد صادق بعد خروجه من السجن رحلة كفاح أخرى من أجل مواصلة رسالته التى عكف على تأديتها، وإعادة قيده بنقابة الصحفيين حيث كان قد فصل منها أثناء تواجده بالسجن رغم أنه كان من الرعيل الأول لإنشائها!!! وبالفعل أعيد قيده وانطلق قلمه فى العديد من الصحف والمجلات منها الفداء الجديد والنيل والمستقبل واليقظة ووطنى، وظل مواصلاً فى الكتابة والدفاع عن المظلومين والمضطهدين طوال خمسة وستين عاماً التى كرسها لخدمة صاحبة الجلالة إلى أن انتقل من عالمنا فى 25 سبتمبر سنة 2000 مخلداً لنا تراثاً فكرياً وتاريخياً موثقاً يكشف لنا عن تاريخ مصر فى تلك الفترة.