من عهد جمال عبد الناصر وتاريخ الوطنية.. إلى السلفيين والشعارات الطائفية
ربما يتشابه المشهدان من حيث التجمع البشرى المتكدس حول المبنى، والطوق الأمنى المحاصر له، والتغطية الإعلامية الضخمة، ومصر وهى تطل على أبنائها تارة مبتهجة وتارة باكية، فرغم الفارق الزمنى بين المشهدين والذى يزيد عن الأربعين عاماً من تاريخ مصر، أربعون عاماً ولا نعلم ماذا جرى لمصر، لا تندهش ولا تفكر كثيراً فهذا المبنى المحاصر بالجمع الغفير والسور الأمنى الحديدي إنما هو مبنى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية الذى يحتفل فى هذا الشهر بذكرى افتتاحه، وقد وجدت الفرصة سانحة لتصوير المشهد الأول فى سطور قليلة:
المكان: الجموع غفيرة داخل وخارج الكاتدرائية بالعباسية.
الزمان: 25 من يونيو عام 1968.
الخطاب:
"أننا نعتقد أن السبيل الوحيد لتأمين الوحدة الوطنية هو المساواة وتكافؤ الفرص، فبهذا نستطيع أن نخلق الوطن القوى. والمواطنون جميعاً لا فرق بين مواطن وآخر، فى المدارس أو الجامعة، ليس هناك تمييز بين مسلم ومسيحي، إنما يدخلون بحسب ترتيبهم فى الدرجات، ولو دخلوا كلهم مسلمين أو كلهم مسيحيين.. وفى التعيينات فى الحكومة بالدرجات والترقيات بالأقدمية دون تفرقة بين دين ودين لكيلا ندع فرصة للمتعصبين أن يتلاعبوا، ونحن كحكومة، وأنا كرئيس جمهورية مسئول عن كل واحد فى هذه البلد مهما كانت ديانته أو أصله أو نسبه، ومسئوليتنا هذه أمام ربنا يوم الحساب".
جمال عبد الناصر
بتلك الكلمات التى هزت وألهبت مشاعر ألوف من الحاضرين وأنزلت برداً وسلاماً على القلوب، رسم الرئيس جمال عبد الناصر دستور الوحدة، وكان غاندى قد سبق وحيا الوحدة التى تربط بين الشعب المصري، وكانت الطائفية وقتها تمزق الهند وتقف عقبة فى طريق تحررها.
الفرقة والانقسام كانتا السند الأول للاستعمار فى كل مكان يطؤه بأقدامه، وأدرك شعبنا آنذاك تلك الخطة، فوقف صفاً واحداً فى وجه تلك المحاولات. وقف جمال عبد الناصر بطل ثورة 1952 متصدياً لطيور الظلام الذين حاولوا القضاء على مكتسبات الثورة، ليسطر تاريخاً مجيداً فى كتاب مصر بحروف من قيم ومبادئ وحب تنص على المساواة واحترام معتقد وفكر الآخر، فقدم إسهاماً للحكومة المصرية بمبلغ مائة ألف جنيه لبناء الكاتدرائية المرقسية بالأنبا رويس.
تلك الثورة سطرت تاريخها بأبطال سرعان ما تولوا حكم البلاد ليحققوا إنجازات لم يكونوا يتخيلون أن يكون فى مقدورهم تحقيقها يوماً ما، ولم يكن يخطر ببالهم لحظة أن تمر السنين على ثورتهم لتنطلق ثورة أخرى تنادي بنفس القيم لمجابهة الفساد الذى تفشى فى كل القطاعات، ثورة "25 يناير" التى لم تسطر تاريخها بريئاً من الدماء وإنما حققت مطالبها بفضل دماء وثبات شبابها الذين آثروا الموت فى سبيل الوطن عن الحياة بترف فى وطن مكلوم من الفقر والفساد، خرجت الثورة للنور لتحقق نتائج أكبر من الثورة السابقة.
وعفواً قبل الاسترسال فى المقال سوف نصور المشهد الثانى، فربما يطرح فى ذهنك بعض التساؤلات، ويوضح ما يعجز القلم عن كتابته لشدة تألمه:
المكان: خارج الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
الزمان: بعد ثورة 25 يناير بأربعة أشهر.
الخطاب: عايز أختى كاميليا، تحرير جميع الأسيرات المسلمات من داخل الكنائس، تفتيش الأديرة لإخراج الأسلحة.
الوصف: وجع فى قلب مصر التى ينشق أبناؤها، وهم لا يدرون أن قوتهم تكمن فى اتحادهم، وتعصبهم نتاج لجهلهم، وكرههم سيقضى على أمتهم.
وتحولت الكاتدرائية كمكان مصرى دينى ورمز للمحبة والتآخى، إلى ساحة للعراك والسباب، فبعد مظاهرات السلفيين بالطبع لم يكف الأقباط الذين رسخ فى وجدانهم شعور بالاضطهاد جراء سنوات الهجمات المتتالية عليهم فتجمهر آلاف الأقباط ليهتفوا: الأقباط أهم السلفيين فين؟ وبالروح بالدم نفديك يا صليب.
هذه الجدران ليست صماء وليست مبنية من طوب وطين، إنما هى روح وحياة، فهى جزء من قلب مصر الذى تكاتف يوماً من أجله المصريون مضحين بكل ما هو غال ونفيس من أجل هدف أسمى وهو تحقيق العدالة للمواطنين أجمع ورفع شأن البلاد، فمصر أعز لديهم من أن تهان ومن أن ينجرفوا إلى هتافات طائفية، ليست القضية هى كاميليا أو غيرها وإنما هى الروح الغريبة التى أمست تطل على البلاد، روح كراهية وصدام، روح عنف وإجبار، روح القوى لابد وأن يظهر الآن، روح بمنأى عن الوطنية والإخاء.
ماذا جرى لمصر لتنقلب من المشهد الأول إلى الثانى بتلك الصورة القاسية، أهو الجهل الذى ساد وتفشى طول العقود الماضية؟ أم الخطاب الدينى المتشدد الذى ينص على الكراهية والبغض وتغيب العقل والمنطق؟ أم هو الكبت السياسى والاجتماعى الذى لم يجد المرء منه منفذاً إلا عن طريق التطرف الدينى؟ أم هو الفساد الذى لازم البلاد طوال الثلاثين عاماً الماضية وما صاحبه من رشوة ومحسوبية؟ هو أى سبب غير الدين، فلا دين ولا إله ولا منطق ولا فكر يسمح بتلك المهازل الطائفية التى تمر بها البلاد.
إعداد: مريم مسعد صادق
اللينك
http://www.eltareeq.com/tareeq2010/pg_editorpage_id_r.aspx?ArID=4753&GrID=10
"ماذا جرى لمصر لتنقلب من المشهد الأول إلى الثانى بتلك الصورة القاسية"
ردحذف