"فرج فودة" صاحب القلم الجريءعاش عاشقاً للنيل ورائداً للتنوير.. واغتيل لمجابهته طيور الظلام والتكفير
إعداد: مريم مسعد صادق
من أجل معشوقته مصر، وجمال عينيها ذي اللون النيلى الخلاب، وسُمرة بشرتها الصافية، وفيض خيراتها الجزيلة، وخفة دمها الساخر، وأصالة تاريخها المجيد، وتفكيرها المُبدع الحيوي، ضحى فرج فودة بكل ما يملك من أجل محبوبته، غير مبال بما قد يصوب على صدره من رصاص التكفير وهجوم الرجعيين، منهضاً محبوبته من سبات تلقين العقل والضمير ليضخ فيها الإبداع من جديد ويُعيد مجد حضارتها العريق، كل هذا لأنه حقاً أحبها. حُبها بدأ معه منذ ولادته في محافظة دمياط في العشرين من أغسطس عام 1945، فعمل جاهداً كي يُعلن لها عن حبه واستحقاقه لها، فحصل على بكالوريوس الزراعة في يونيو 1967، وماجستير العلوم الزراعية في أبريل 1975، ودكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي في ديسمبر 1981، وعمل مُعيداً في كلية زراعة عين شمس، ثم عمل فترة في اليمن خبيراً زراعياً ثم في جامعة بغداد مدرساً. ورغم كل تلك النجاحات المتوالية، إلا أن تاريخ محبوبته كان يئن أمامه ما بين التطلع للمستقبل والنهضة وهجوم الراجعين، تخيل فودة محبوبته وهى تُبعث من جديد.. عظيمة ومنطلقة.. قوية وصادمة.. قادرة وحية.. معطاءة كعهدها.. للخير والحضارة، والعدل والضمير. فعاد إلى مصر ليفتتح مجموعة فودة لدراسات الجدوى الاقتصادية، هذا العمل الذي استمر معه حتى النفس الأخير، وسرعان ما انخرط في حزب الأحرار والذي تركه لينضم لحزب الوفد حتى أصبح أحد قادته الشباب، ولم يلبث أن أحدث تغييرات لنهضة الفكر والتعليم، حتى تحالف الحزب مع الإخوان المسلمين عام 1984م، فترك الحزب احتجاجاً، ومن هنا بدأ الطريق يتراءى أمام فودة في الدفاع عن الدولة المدنية فألف كتاب "الوفد والمستقبل"، والذي ناقش فيه تاريخ الوفد العريق ومستقبل الحياة السياسية في مصر، مع تفشى الجامعات الإسلامية والتي نجحت في فترة وجيزة في استقطاب عدد من الشباب والأئمة ذوى الطموح حتى أتيحت لهم شعبية طاغية وأنصار لا حصر لهم، فأصبحوا من نجوم الكاسيت في غيبة الأحزاب السياسية والمناخ الديمقراطي الذي يسمح بالأخذ والرد والمناقشة. وقال فودة في كتاب الوفد والمستقبل: "إن النجاح الحقيقي الذي حققته الاتجاهات السياسية الإسلامية المتطرفة، لم يتمثل فقط في تواجدها المنظم في الحياة السياسية المصرية، مع إبداع أساليب تنظيمية أكثر ذكاء وتواؤماً مع الظروف الحاضرة، بل تمثل أساساً في إشاعة جو من الإرهاب الفكري السياسي. لقد نجحوا في ظل غياب الديمقراطية في أن يسحبوا الفكر المصري معهم إلى ركن مظلم، يفضل أن يلوذ فيه بالصمت. إن عديداً من الأسئلة التي سبق وطرحها المصريون في العشرينيات لا يجرؤ مفكر على أن يطرحها اليوم، إن لفظ العلمانية وهو ببساطة الفصل بين الدين والسياسية أصبح جريمة.. وعلى ضوء هذا الصراع سوف يتحدد المستقبل، الانتماء للمستقبل أم الماضي، الديموقراطية أم الإرهاب، الليبرالية أم القهر، الانتماء للعصر أم للتاريخ، مصر أولاً أم العقيدة أولاً؟وعن المواطنة وحرية الرأي قال فودة: "أنه في ظل حرية الفكر تورق النفوس ويزدهر الحوار وتتفتح الملكات وفى غياب حرية الرأي لا مكان لزمجرة رياح التسلط حين تصطدم بالأشجار الذابلة الجوفاء، وإنه من المثير للدهشة أن تشتعل الفتنة الطائفية في مصر من وقت لآخر، مما يقطع بأن جذورها كامنة تحت الرماد وأنها تهدد الوطن كله بخطر جسيم خاصة وأن أسبابها موجودة ومتعددة بل ومتزايدة، ونحن في العقد التاسع من القرن العشرين نعانى من جمود وتخلف أكثر مما كان عليه الأمر في العشرينيات أو الثلاثينيات حين ارتفعت دعوى سعد (الدين لله والوطن للجميع) وحين كان يرأس مجلس النواب وهو المجلس التشريعي أحد الأقباط وهو ويصا واصف، وحين كان يسمح مناخ الفكر بإصدار كتاب الشيخ على عبد الرازق" الإسلام وأصول الحكم". غير أن تلك الأفكار التنويرية التي تبناها فودة لم تلاقى قبولاً لدى كثيرين فهاجمهوه واتهموه بالكفر، ولم يقتصر تصويب رصاص التكفير عليه فحسب بل امتد إلى أهل بيته، وقد عبر عن ذلك في مقدمة كتابه "نكون أو لا نكون" والذي صدر عام 1992 وقال فودة فيه: "إلى زملاء ولدي الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقاً لمقولة آبائهم عنى.. إليهم حين يكبرون، ويقرأون ويدركون أنى دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى على من رصاص جيل آبائهم". ولكن في سبيل عشق فودة لمصر، لم يعبأ بتلك التحديات، ولم يبال بأية اتهامات، بل عاش وقلمه يكتب في ثبات، دفاعاً عن إيمانه وعقيدته ووطنيته فقال:"إن عليهم أن يفكروا قبل أن يكفروا، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل، وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم، وهى أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين". فنشر في يناير 1985 كتاباً بعنوان "قبل السقوط" والذي كان بمثابة حوار هادئ مع الجامعات الإسلامية وإن كان قد ناقش بعض القضايا الساخنة عن إمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية. قال فودة: "إن تطبيق الشريعة الإسلامية لابد وأن يقود إلى دولة دينية والدولة الدينية لابد وأن تقود إلى حكم بالحق الإلهي لا يعرفه الإسلام أو قل عرفه فقط في عهد الرسول، والحكم بالحق الإلهي لا يمكن أن يقام إلا من خلال رجال دين إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة مما يؤدى بالتأكيد إلى انهيار الوحدة الوطنية في مصر". كما كتب فودة عدة مقالات في عدد من الصحف والمجلات، كالأخبار والأهرام والمنار والأهالي والأحرار وطبيبك الخاص والأيام السودانية والنور والمصور، تضمنت موضوعات شتى عن الشباب والتطرف، والفتاة المصرية وقضية الدين، وزواج المتعة والفتاوى، وقد جُمعت في التسعينيات ونشرت في كتاب بعنوان" نكون أو لا نكون"، هذا بالإضافة إلى العديد من الكتب أصدرها فودة: الطائفية إلى أين؟ الملعوب، الإرهاب، النذير، حوار حول العلمانية ، الحقيقة الغائبة، قبل السقوط،، الوفد والمستقبل. ولم يلبث وأن أحدثت إصداراته ضجة بالشارع المصري وإفاقة للعقول المُغيبة، وتسامحاً في النفوس المتعصبة، حتى شُنت عليه الهجمات فكان يرد عليها بشجاعة وشفافية من منطلق رؤيته للأحداث وثقافته الغزيرة، كما كان يقبل كل دعوات الندوات والمناظرات، والتي كان أخرها مناظرة معرض الكتاب عام 1992 مع محمد عمارة والشيخ الغزالي ومأمون الهضيبى حول الدولة المدنية والدولة الدينية، والتي أبدع فيها فودة ولم يستطع مُهاجموه الرد عليه، غير أن التنويريين من تعلقوا بأفكاره وتشبثوا بآماله لم يكونوا يعلمون أنها ستكون المرة الأخيرة لرؤيته، حيث أصدرت جماعة إرهابية بياناً بتكفيره، وكان فودة في غضون تلك الحملة الشرسة بصدد إشهار حزب جديد باسم "حزب المستقبل" ليقف ضد تيار التطرف الدموي الذي كان يستبيح دماء الأقباط وأموالهم، ونشرت الصحف البيان التمهيدي الرسمي عن الحزب وكان فرج فودة يشغل الرقم الثاني وأحمد صبحي منصور يشغل الرقم السادس، وهما اللذان كانت تربطهما صلة صداقة وثيقة، والتي امتدت أصابعها لصديقه فاتهم هو الآخر بالتكفير مع فودة في البيان الذي صدر بجريدة النور في يوم الأربعاء من يونيو عن جبهة علماء الأزهر وعلي رأسهما الشيخ عمر عبد الرحمن وقد طالبت الجبهة من لجنة شئون الأحزاب بعدم الترخيص لحزب المستقبل، ويروى أحمد صبحي تفاصيل اليوم الأسود الذي بكت فيه محبوبته مصر فيقول: "رأيت على مكتب فرج فودة صبيحة يوم الأربعاء الجريدة التي تحمل بياناً بتكفيرنا وإجازة قتلنا، وقال لي فودة لابد وأن أرد عليهم، قلت له لا تفعل إنهم لا يستحقون، وكان مقرراً أن يسافر فودة إلى فرنسا بعد عيد الأضحى مباشرة ليستأنف إجراءات إقامة الحزب، حيث كان قد حصل على موافقة بتأسيسه، غير أن القدر لم يمهله ففي يوم الاثنين 8 يونيو 1992 في تمام الساعة السادسة والربع أمام الجمعية المصرية للتنوير بشارع أسماء فهمي التي أسسها، صوبت نيران الجهل والتخلف رصاصها على صدر فرج فودة فاخترقت قلبه الذي كان مليئاً بعشق محبوبته مصر، وبكت معه مصر لفقدان رائد تنويرها. أطلقوا رصاصهم عليه ولم يدركوا أنهم صوبوه في قلب معشوقته مصر. سقط فودة ودماؤه تسيل على الأرض وهو يقول "ويا مصر.. يعلم الله أنني أحبك بلا حدود وأعشقك حتى آخر قطرة من دمى وأتعبد في محرابك بكل ذرة من كياني، وأدفع حياتي كلها ثمناً لبقائك متماسكة". من أقوال فرج فودة: • إن علينا جميعاً واجباً أساسياً وتاريخياً، وهو أن نترك لأبنائنا مناخاً فكرياً أفضل، وهو أمر لا يتأتى إلا بمواجهة الإرهاب الفكري بكل الشجاعة والوضوح والحسم، ومادام الشيخ وأنصاره قد اختاروا المجلس النيابي منبراً فليتحدثوا بلغته، وليس للمجلس إلا لغة واحدة، وهى لغة السياسة، وليس له إلا جنسية واحدة.. وهى جنسية مصرية. • هل ترهلت عقولنا حتى عز عليها التفكير، وتفرقت أفكارنا حتى عز عليها التجديد، وترفعت طاقتنا عن الإبداع وقدراتنا عن تصور النسبية في الصواب والخطأ، وأذهاننا عن استيعاب مفهوم الفكرة والنقيض، فاسترحنا إلى أول طارق يعد بإلغاء كل ذلك، وإحالة كل أمر إلى أعلى، وعز علينا عجز القدرة فاستبدلناه بقدرة العاجزين؟ • إننا جميعاً في حاجة إلى إعادة توزيع الأدوار من جديد... ليتكلم رجال الدين في الدين، وليتكلم رجال السياسة في السياسة، أما أن يرفع رجال الدين شعارات السياسية إرهاباً، ويرفع رجال السياسة شعارات الدين استقطاباً، فهذا هو الخطر الذي يجب أن ننتبه له.. • إن الإرهاب لا ينمو بصورة ذاتية، بل يتواجد بقدر ما نتيح له من مناخ، ويتوالد بقدر ما نتراجع أمامه، ويقوى بقدر ما نخاف، ويعلو صوته بقدر ما نخاف، ويعلو صوته بقدر خفوت أصواتنا، ويزداد رصيده بقدر ما نسحب منه حساب الشجاعة في بنك المستقبل.. • نرفض رفضاً تاماً أي دعوة لإنشاء دولة دينية تحت أي شعار... إن بلادنا ليست في حاجة إلى تكرار تجربتها المريرة مع الحكم المستتر خلف شعارات الدين لأكثر من ألف عام على هذه الأرض. • إذا كنا نرفض تدخل الدين في السياسة.. فإننا أيضاً ندين تدخل السياسة في الدين، إن تسييس الدين أو تديين السياسة وجهان لعملة واحدة، هي انهيار الوحدة الوطنية في مصر.
من أجل معشوقته مصر، وجمال عينيها ذي اللون النيلى الخلاب، وسُمرة بشرتها الصافية، وفيض خيراتها الجزيلة، وخفة دمها الساخر، وأصالة تاريخها المجيد، وتفكيرها المُبدع الحيوي، ضحى فرج فودة بكل ما يملك من أجل محبوبته، غير مبال بما قد يصوب على صدره من رصاص التكفير وهجوم الرجعيين، منهضاً محبوبته من سبات تلقين العقل والضمير ليضخ فيها الإبداع من جديد ويُعيد مجد حضارتها العريق، كل هذا لأنه حقاً أحبها. حُبها بدأ معه منذ ولادته في محافظة دمياط في العشرين من أغسطس عام 1945، فعمل جاهداً كي يُعلن لها عن حبه واستحقاقه لها، فحصل على بكالوريوس الزراعة في يونيو 1967، وماجستير العلوم الزراعية في أبريل 1975، ودكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي في ديسمبر 1981، وعمل مُعيداً في كلية زراعة عين شمس، ثم عمل فترة في اليمن خبيراً زراعياً ثم في جامعة بغداد مدرساً. ورغم كل تلك النجاحات المتوالية، إلا أن تاريخ محبوبته كان يئن أمامه ما بين التطلع للمستقبل والنهضة وهجوم الراجعين، تخيل فودة محبوبته وهى تُبعث من جديد.. عظيمة ومنطلقة.. قوية وصادمة.. قادرة وحية.. معطاءة كعهدها.. للخير والحضارة، والعدل والضمير. فعاد إلى مصر ليفتتح مجموعة فودة لدراسات الجدوى الاقتصادية، هذا العمل الذي استمر معه حتى النفس الأخير، وسرعان ما انخرط في حزب الأحرار والذي تركه لينضم لحزب الوفد حتى أصبح أحد قادته الشباب، ولم يلبث أن أحدث تغييرات لنهضة الفكر والتعليم، حتى تحالف الحزب مع الإخوان المسلمين عام 1984م، فترك الحزب احتجاجاً، ومن هنا بدأ الطريق يتراءى أمام فودة في الدفاع عن الدولة المدنية فألف كتاب "الوفد والمستقبل"، والذي ناقش فيه تاريخ الوفد العريق ومستقبل الحياة السياسية في مصر، مع تفشى الجامعات الإسلامية والتي نجحت في فترة وجيزة في استقطاب عدد من الشباب والأئمة ذوى الطموح حتى أتيحت لهم شعبية طاغية وأنصار لا حصر لهم، فأصبحوا من نجوم الكاسيت في غيبة الأحزاب السياسية والمناخ الديمقراطي الذي يسمح بالأخذ والرد والمناقشة. وقال فودة في كتاب الوفد والمستقبل: "إن النجاح الحقيقي الذي حققته الاتجاهات السياسية الإسلامية المتطرفة، لم يتمثل فقط في تواجدها المنظم في الحياة السياسية المصرية، مع إبداع أساليب تنظيمية أكثر ذكاء وتواؤماً مع الظروف الحاضرة، بل تمثل أساساً في إشاعة جو من الإرهاب الفكري السياسي. لقد نجحوا في ظل غياب الديمقراطية في أن يسحبوا الفكر المصري معهم إلى ركن مظلم، يفضل أن يلوذ فيه بالصمت. إن عديداً من الأسئلة التي سبق وطرحها المصريون في العشرينيات لا يجرؤ مفكر على أن يطرحها اليوم، إن لفظ العلمانية وهو ببساطة الفصل بين الدين والسياسية أصبح جريمة.. وعلى ضوء هذا الصراع سوف يتحدد المستقبل، الانتماء للمستقبل أم الماضي، الديموقراطية أم الإرهاب، الليبرالية أم القهر، الانتماء للعصر أم للتاريخ، مصر أولاً أم العقيدة أولاً؟وعن المواطنة وحرية الرأي قال فودة: "أنه في ظل حرية الفكر تورق النفوس ويزدهر الحوار وتتفتح الملكات وفى غياب حرية الرأي لا مكان لزمجرة رياح التسلط حين تصطدم بالأشجار الذابلة الجوفاء، وإنه من المثير للدهشة أن تشتعل الفتنة الطائفية في مصر من وقت لآخر، مما يقطع بأن جذورها كامنة تحت الرماد وأنها تهدد الوطن كله بخطر جسيم خاصة وأن أسبابها موجودة ومتعددة بل ومتزايدة، ونحن في العقد التاسع من القرن العشرين نعانى من جمود وتخلف أكثر مما كان عليه الأمر في العشرينيات أو الثلاثينيات حين ارتفعت دعوى سعد (الدين لله والوطن للجميع) وحين كان يرأس مجلس النواب وهو المجلس التشريعي أحد الأقباط وهو ويصا واصف، وحين كان يسمح مناخ الفكر بإصدار كتاب الشيخ على عبد الرازق" الإسلام وأصول الحكم". غير أن تلك الأفكار التنويرية التي تبناها فودة لم تلاقى قبولاً لدى كثيرين فهاجمهوه واتهموه بالكفر، ولم يقتصر تصويب رصاص التكفير عليه فحسب بل امتد إلى أهل بيته، وقد عبر عن ذلك في مقدمة كتابه "نكون أو لا نكون" والذي صدر عام 1992 وقال فودة فيه: "إلى زملاء ولدي الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقاً لمقولة آبائهم عنى.. إليهم حين يكبرون، ويقرأون ويدركون أنى دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى على من رصاص جيل آبائهم". ولكن في سبيل عشق فودة لمصر، لم يعبأ بتلك التحديات، ولم يبال بأية اتهامات، بل عاش وقلمه يكتب في ثبات، دفاعاً عن إيمانه وعقيدته ووطنيته فقال:"إن عليهم أن يفكروا قبل أن يكفروا، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل، وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم، وهى أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين". فنشر في يناير 1985 كتاباً بعنوان "قبل السقوط" والذي كان بمثابة حوار هادئ مع الجامعات الإسلامية وإن كان قد ناقش بعض القضايا الساخنة عن إمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية. قال فودة: "إن تطبيق الشريعة الإسلامية لابد وأن يقود إلى دولة دينية والدولة الدينية لابد وأن تقود إلى حكم بالحق الإلهي لا يعرفه الإسلام أو قل عرفه فقط في عهد الرسول، والحكم بالحق الإلهي لا يمكن أن يقام إلا من خلال رجال دين إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة مما يؤدى بالتأكيد إلى انهيار الوحدة الوطنية في مصر". كما كتب فودة عدة مقالات في عدد من الصحف والمجلات، كالأخبار والأهرام والمنار والأهالي والأحرار وطبيبك الخاص والأيام السودانية والنور والمصور، تضمنت موضوعات شتى عن الشباب والتطرف، والفتاة المصرية وقضية الدين، وزواج المتعة والفتاوى، وقد جُمعت في التسعينيات ونشرت في كتاب بعنوان" نكون أو لا نكون"، هذا بالإضافة إلى العديد من الكتب أصدرها فودة: الطائفية إلى أين؟ الملعوب، الإرهاب، النذير، حوار حول العلمانية ، الحقيقة الغائبة، قبل السقوط،، الوفد والمستقبل. ولم يلبث وأن أحدثت إصداراته ضجة بالشارع المصري وإفاقة للعقول المُغيبة، وتسامحاً في النفوس المتعصبة، حتى شُنت عليه الهجمات فكان يرد عليها بشجاعة وشفافية من منطلق رؤيته للأحداث وثقافته الغزيرة، كما كان يقبل كل دعوات الندوات والمناظرات، والتي كان أخرها مناظرة معرض الكتاب عام 1992 مع محمد عمارة والشيخ الغزالي ومأمون الهضيبى حول الدولة المدنية والدولة الدينية، والتي أبدع فيها فودة ولم يستطع مُهاجموه الرد عليه، غير أن التنويريين من تعلقوا بأفكاره وتشبثوا بآماله لم يكونوا يعلمون أنها ستكون المرة الأخيرة لرؤيته، حيث أصدرت جماعة إرهابية بياناً بتكفيره، وكان فودة في غضون تلك الحملة الشرسة بصدد إشهار حزب جديد باسم "حزب المستقبل" ليقف ضد تيار التطرف الدموي الذي كان يستبيح دماء الأقباط وأموالهم، ونشرت الصحف البيان التمهيدي الرسمي عن الحزب وكان فرج فودة يشغل الرقم الثاني وأحمد صبحي منصور يشغل الرقم السادس، وهما اللذان كانت تربطهما صلة صداقة وثيقة، والتي امتدت أصابعها لصديقه فاتهم هو الآخر بالتكفير مع فودة في البيان الذي صدر بجريدة النور في يوم الأربعاء من يونيو عن جبهة علماء الأزهر وعلي رأسهما الشيخ عمر عبد الرحمن وقد طالبت الجبهة من لجنة شئون الأحزاب بعدم الترخيص لحزب المستقبل، ويروى أحمد صبحي تفاصيل اليوم الأسود الذي بكت فيه محبوبته مصر فيقول: "رأيت على مكتب فرج فودة صبيحة يوم الأربعاء الجريدة التي تحمل بياناً بتكفيرنا وإجازة قتلنا، وقال لي فودة لابد وأن أرد عليهم، قلت له لا تفعل إنهم لا يستحقون، وكان مقرراً أن يسافر فودة إلى فرنسا بعد عيد الأضحى مباشرة ليستأنف إجراءات إقامة الحزب، حيث كان قد حصل على موافقة بتأسيسه، غير أن القدر لم يمهله ففي يوم الاثنين 8 يونيو 1992 في تمام الساعة السادسة والربع أمام الجمعية المصرية للتنوير بشارع أسماء فهمي التي أسسها، صوبت نيران الجهل والتخلف رصاصها على صدر فرج فودة فاخترقت قلبه الذي كان مليئاً بعشق محبوبته مصر، وبكت معه مصر لفقدان رائد تنويرها. أطلقوا رصاصهم عليه ولم يدركوا أنهم صوبوه في قلب معشوقته مصر. سقط فودة ودماؤه تسيل على الأرض وهو يقول "ويا مصر.. يعلم الله أنني أحبك بلا حدود وأعشقك حتى آخر قطرة من دمى وأتعبد في محرابك بكل ذرة من كياني، وأدفع حياتي كلها ثمناً لبقائك متماسكة". من أقوال فرج فودة: • إن علينا جميعاً واجباً أساسياً وتاريخياً، وهو أن نترك لأبنائنا مناخاً فكرياً أفضل، وهو أمر لا يتأتى إلا بمواجهة الإرهاب الفكري بكل الشجاعة والوضوح والحسم، ومادام الشيخ وأنصاره قد اختاروا المجلس النيابي منبراً فليتحدثوا بلغته، وليس للمجلس إلا لغة واحدة، وهى لغة السياسة، وليس له إلا جنسية واحدة.. وهى جنسية مصرية. • هل ترهلت عقولنا حتى عز عليها التفكير، وتفرقت أفكارنا حتى عز عليها التجديد، وترفعت طاقتنا عن الإبداع وقدراتنا عن تصور النسبية في الصواب والخطأ، وأذهاننا عن استيعاب مفهوم الفكرة والنقيض، فاسترحنا إلى أول طارق يعد بإلغاء كل ذلك، وإحالة كل أمر إلى أعلى، وعز علينا عجز القدرة فاستبدلناه بقدرة العاجزين؟ • إننا جميعاً في حاجة إلى إعادة توزيع الأدوار من جديد... ليتكلم رجال الدين في الدين، وليتكلم رجال السياسة في السياسة، أما أن يرفع رجال الدين شعارات السياسية إرهاباً، ويرفع رجال السياسة شعارات الدين استقطاباً، فهذا هو الخطر الذي يجب أن ننتبه له.. • إن الإرهاب لا ينمو بصورة ذاتية، بل يتواجد بقدر ما نتيح له من مناخ، ويتوالد بقدر ما نتراجع أمامه، ويقوى بقدر ما نخاف، ويعلو صوته بقدر ما نخاف، ويعلو صوته بقدر خفوت أصواتنا، ويزداد رصيده بقدر ما نسحب منه حساب الشجاعة في بنك المستقبل.. • نرفض رفضاً تاماً أي دعوة لإنشاء دولة دينية تحت أي شعار... إن بلادنا ليست في حاجة إلى تكرار تجربتها المريرة مع الحكم المستتر خلف شعارات الدين لأكثر من ألف عام على هذه الأرض. • إذا كنا نرفض تدخل الدين في السياسة.. فإننا أيضاً ندين تدخل السياسة في الدين، إن تسييس الدين أو تديين السياسة وجهان لعملة واحدة، هي انهيار الوحدة الوطنية في مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق