من هذا المنطلق أصدر الأب "سهيل قاشا" الجزء الثالث من سلسلة الكنائس المسيحية الشرقية فى كتاب بعنوان "صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام". وقد قسم الأب سهيل بحثه على ثلاثة محاور: • الأول: المسيحية فى العراق، ويذكر الأب سهيل أن المسيحية انتشرت فى العراق منذ بداية القرن الأول الميلادى، حيث يؤكد أغلب المؤرخين أنها انتشرت على يد الرسول "مار أدى" فى الحيرة والمدائن والأنبار وعين التمر وميشان ومناطق أخرى. ومن القبائل العربية التى تنصرت فى العراق: بنو عجم بن لجيم من قبائل بكر بن وائل، وأشهر قبائل العراق المسيحية قبل الإسلام هم بنو تغلب. • الثانى: المسيحية فى بلاد الشام، وقيام مملكة الغساسنة وما قدمته من خدمات فى تعضيد الكنيسة السريانية اليعقوبية. • الثالث: المسيحية فى مكة والمسيحية فى نجران.واستهل الأب "سهيل" كتابه بما ورد فى سفر أعمال الرسل: "فبهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض اترى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين. فكيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التي ولد فيها. فرتيون وماديون وعيلاميون والساكنون ما بين النهرين واليهودية... كريتيون وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله". الأمر الذى يشير إلى وجود عرب فى أيام المسيحية الأولى، حيث انتشرت المسيحية فى بلاد العرب قبل الإسلام انتشاراً كبيراً وكان المسيحيون أفراداً فى قبيلة أو مجموعة منها، ونادراً ما كانت القبيلة بأكملها تؤمن بالمسيحية، غير أن تنصيرهم كان كثيفاً فى نجران والحيرة وغسان وبادية الشام وشمال سوريا. ومما ساعد على اعتناق العرب المسيحية التقاؤهم بالرهبان، إلى جانب نشاط الدعاة والمبشرين، وكانت القبائل العربية توفد إلى مارشمعون فى جماعات تقدر الواحدة منها بالمائتين وبالثلاثمائة، بل وبألف شخص أحياناً وكان يقوم بتنصيرهم جميعاً، وقد ذكر هذا الأمر تُيودور القورشى فى سيرة شمعون. الحميرين: البلاد الحميرية هى البلاد المعروفة ببلاد اليمن وقد عرفت عبر التاريخ بـ"سبأ"، كما عرفت بـ"الهند" فى تاريخ أوسابيوس القيصرى، وبـ"الحبشة" وذلك لنزوح عدة قبائل حبشية واستيلائهم عليها مدة طويلة، ويرجع تعدد الأسماء إلى اختلاف الكتبة والمؤرخون فى تسمية الشعوب المُنتمية إلى العرق الأسود، ويذكر التاريخ الكنسى أن برثلماوس الرسول هو أول من دعا إلى المسيحية فيها وفى الحجاز، وترك لهم نسخة من إنجيل متى باللغة السريانية الفلسطينية، وقد عثر عليه الفيلسوف الإسكندرى بنتينوس أستاذ المدرسة الإسكندرية اللاهوتية، الذى توغل فى تلك البلاد فى أواخر القرن الثانى مُـبشراً بالإنجيل، كما أكد القديس مارافرام السريانى وماريعقوب الرهاوى ومارديونيسيوس بن صليبى أن الخصى الذى عمده فيلبس (أع 8: 27) كان وزيراً لقندافة ملكة سبأ، أى أنه كان حميرياً، وفى القرن الثالث ضمت نجران إلى إيبارشية أسقفية أنشئت فى قطر وذلك طبقاً لما ذكره البطريرك أفرام الأول فى كتاب الدرر النفيسة فى تاريخ الكنيسة، وفى القرن الرابع أنشأ عبد يشوع الناسك السريانى جنوبى قطر ديراً باسم مارتوما. وفى أوائل القرن الخامس تنصرت قبيلة الحارث بن كعب اليمينية الكبيرة، وتعمق الحميريون فى إيمانهم المسيحى، حتى إنهم لم ينصاعوا للتهديدات التى شنها عليهم "مسروق" الذى ملك على اليمن عام 523م، وعندما فشل فى تهديدهم وصل به الأمر أن قام بتعديب المسيحيين، غير أنهم لم يبالوا بذلك الاضطهاد قائلين: "إننا نؤمن بأنه حقاً الإله وابن الإله" متعزين من أقوال القديسين فيلوكسينوس المنبجى وماريعقوب السروجى. وقد نظم يوحنا بسلطوس رئيس دير قنسرين نشيداً كنسياً بالسريانية عنوانه: "فى الشهداء الحميرين القديسين الذين استشهدوا فى نجران فى جنوبى بلاد العرب، حين كان مسروق اليهودى ملك العرب يضطهد مسيحيى تلك البلاد ويضيق عليهم ليكفروا بالمسيح". ومن الشهيدات النجرانيات أليشبع والتى كانت شمامسة وعذبها اليهود وعملوا شبه إكليل من الطين ووضعوه على رأسها مستهزئين قائلين: "اقبلى إكليلك يا شماسة ابن النجارين"، وقد لاقت صنوفاً من العذاب حتى استشهدت وتهنه الشهيدة وابنتها، والشيخ الحارث بن كعب، والشهيدة مانحة، والشهيدة روهوم بنت أزمع...وغيرهم السلام فى مكة: لم يكن المسيحيون فى مكة جماعة كبيرة عند تبشير محمد بالإسلام، فيذكر اليعقوبى فى تاريخه اثنين فقط كانا مسيحيان، أحدهما "ورقة بن نوفل ابن عم خديخة بنت خويلد"، وفى سيرة ابن هشام يذكر وجود جماعة من نصارى الأحباش فى مكة مُتمسكين بمسيحيتهم، وإن هؤلاء الأحباش أثروا فى لغة قريش، فزادوا من معجمها ومفرداتها. وكان بنو أسد أقرب الأسر القريشية إلى المسيحية والدائنين بها، كما كان الغساسنة المسيحيون يقيمون فى جوار مكة فى "المسجد الحرام". ولم يكن فى ذلك العهد أى تعصب دينى بين العرب، وكان من الطبيعى أن يجلس أبناء "قصى" الغرباء عن قريش في دار الندوة ويعاملوا كالقريشيين ويجلسون إلى جانب شيوخ مكة، ولم يظهر ذلك التعصب الدينى إلا بعد انتشار مذاهب التفسير القرآنى وشروحات أئمة التحليل والتحريم. الكعبة: كانت الكعبة حتى عهد محمد لا تنتمى إلى أي إله معروف ولا تحمل اسماً خاصاً، ويتضح ذلك من خلال شعر عدى بن زيد وزملائه المسيحيين فى العصر الجاهلى، حيث ذكروا أن رب البيت أو رب مكة يجب أن يكون هو الله ذلك الإله الأكبر، وقد حلف به كل شعراء الجاهلية على السواء، وبعضهم جمع بينه وبين الله والصليب. وقد نسبت المصادر العربية بناء كعبة نجران إلى أشخاص مسيحيين وهم عبد المسيح بن دارس بن عدى أو إلى صهره يزيد بن عبد المدان، وقال أحد الشعراء المعاصرين لعهد محمد وهو الأعشى بن ميمون بن قيس البكرى فى قصيدة: فكعبة نجران حتم عليك حتى تُناحى بأبوبها نزور يزيد وعبد المسيح وقيساً هم خير أربابها فى شبه الجزيرة العربية: تمكنت المسيحية من النفاذ إلى شبه الجزيرة العربية، ومن الإشارات الدالة على ذلك، تأكيد عمرو بن متى على دور القديس مارى أحد السبعين رسولاً الذى يُنسب إليه تنصير بلاد بابل والعراقين والأهواز واليمن وبلاد العرب سكان الخيم ونجران وجزائر بحر اليمن وبحر الهند. كما تشير الراوية اليونانية المتعلقة بالأسقف الأريوسى "تاوفيل" أن أول عمليات التبشير فى اليمن تعود إلى القرن الرابع الميلادى، وتقول الرواية أن الإمبراطور قسطنطين أرسل وفداً من الرومان إلى ملك حمير وكان يترأسهم "تاوفيل" الذى بشر بالدين المسيحى رغم معارضة الطوائف اليهودية، وأنه شيد ثلاث كنائس الأولى فى حاضرة الحميريين ظفار والثانية فى عدن على الساحل، والثالثة عند مدخل الخليج العربى. وللأحباش روايات عن انتشار المسيحية فى اليمن خلاصتها أن قديساً يدعى "أزقير" أقام كنيسة ورفع الصليب وبشر بالمسيحية وذلك فى النصف الثانى من القرن الخامس غير أن المسيحية لم تتمكن من الثبات والصمود أمام قوى نفوذ اليهودية مما أدى إلى خمود الحركة المسيحية لمدة قرن على الأقل (القرن الخامس الميلادى)، ولم يكتف الملك اليهودى "ذى نواس" بخمود الحركة التبشيرية فراح يضطهد المسيحيين باليمن مُتركزاً على المراكز المسيحية مثل ظفار ومأرب ونجران، غير أن المسيحيين وقفوا فى بسالة أمام اضطهاده، وذكرت الوثائق ذلك الأمر ومن بينها "وصية الشهيد الحارث بن كعب" لعشيرته والتى صرح بها أمام ذى نواس قائلاً: "أيها المسيحيون والوثنيون واليهود اسمعوا: إذا كفر أحد بالمسيح وعاش مع هذا اليهودى، سواء أكانت زوجتى أو أبنائى أو من جنسى وعشيرتى، فإنه ليس من جنسى ولا من عشيرتى وليس لى أية شركة معه، وليكن كل ما أملكه للكنيسة التى ستبنى بعدنا فى هذه المدينة، وإذا عاشت زوجتى أو أحد أبنائى وبناتى بأية وسيلة، ولم يكفروا بالمسيح فليكن كل ما أملكه لهم ولنخصص للكنيسة ثلاث قرى من مُلكى تختارها الكنيسة نفسها". وقد وردت تلك الوصية فى رسالة شمعون الأورشيمى الثانية التى أرسلها عام 524م إلى شمعون رئيس دير الجبول، وتوجد وصية الحارث بن كعب فى مخطوط عربى تحت رقم 312 بمكتبة باريس. وبعد القضاء على الملك اليهودى ذى نواس انتعشت المسيحية وانتشرت، ويتضح ذلك من خلال النقاشات المشتملة على صيغ مسيحية، وإقامة الأحباش فى صنعاء كنيسة عظيمة عرفها العرب باسم القليس. الطقوس: وفى كل البلاد العربية التى كان يعتنق أهلها الإسلام كان الأساقفة والشمامسة يقومون بتعليم العرب الشعائر والطقوس المسيحية منذ بداية تنصيرهم، ويتضح ذلك فى رواية ابن الكلبى إذ قال: "إن النعمان دخل دير هند الصغرى فى بعض أعياده، فرأى امرأة تأخذ قرباناً فسأل عنها"، وفى رواية ابن إسحاق عن صلاة وفد نجران يتضح أنهم كانوا يصلون باتجاه المشرق، ويتضح من الشعر القديم أن العرب المسيحيين كانوا يعظمون أعيادهم وكانوا يحتفلون بخميس الفصح، كما كانوا يسبقون صيام الأربعين يوماً بأسبوع، وكان الكثير منهم لا يأكل الخبز طوال فترة الصوم، ومن أشهر أصوامهم "صوم العذارى" الذى ذكر عنه البيرونى أن السبب فى منشئه أن ملك الحيرة اختار عدة سيدات ليتخذهن فصمن ثلاثة أيام أسفرت عن موت الملك ولم يمسسهن، فصامته العذارى المسيحيات شكراً لله حينما انتصر العرب على العجم يوم ذى قار، كما كانوا يسمون يوم الشعانين بالسباسب وهى تعنى لديهم أغصان سعف النخيل. كما علمهم الأسقف" أحودامه" العشور وكانت عشورهم توزع على الكنائس والأديرة، منها دير مار متى وكوختا ودير بيت مار سرجيس، كما كان العرب المسيحيون يعظمون الصليب ويتضح ذلك فى قسم هند بنت النعمان بالصليب وقسم عدى ابن زيد. لبنة صغيرة فى صرح تاريخنا العربى المسيحى العريق شاهدة على تمسك أجدادنا المسيحيين بالإيمان، فكانوا كالنور الذى ينير الظلمة ثقافياً وإيمانياً لم قدموه من مآثر ومواقف وإنجازات تشهد لها كل الوثائق والمخطوطات.
Bottom of Form
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق